Tuesday, July 30, 2013

أصداء الصمت


أصداء الصمت


أبى الصمتُ بداخلها أن يخضعَ ويستكين، أبى أن يتوارى عن العيونِ، ليأخذ هذا الركنَ البعيد الدفين في معظم النفوس البشرية المستكينة لما فرضتْه عليها خياراتُ الحياة؛ فصرخ، وكان لصرخته أصداء تعددت أصواتها بصوت الأنين والبكاء، وربما بصوت تلون في أشكاله بعدة وجوه للنساء.

نظرًا لطبيعة عملها كفنانة تشكيلية؛ أصبح لصمتها أشكالٌ ولوحات وآهات وأنَّات، رسمت لوحاتها الفنية وكأنها استبدلت مداد الحبر الأسود - نظرًا لرسوماتها الجرافيكية التي ترسمها بالأبيض والأسود - بمدادٍ من نبضات قلبها الأبِيِّ الذي لم يهدأ بعد ولم يستكِنْ.

• دخل معرضها المقام في "أتيليه" القاهرة دون أن يكون مرتبًا لذلك؛ فهو على موعد مع بعض الشعراء أقرانه، اتفقوا على اللقاء هناك، وكانت المصادفة عرض معرضها في ذلك التوقيت، دخل ومنذ أن رأت عيونه لوحاتها التي تنطق بالحياة.

• تساءل بينه وبين نفسه: ما الذي فقدته هذه الفنانة، ودفع بها لرحلة البحث المضنية هذه؟

• هل فقدت الحب؟ هل فقدت الدفء؟ هل فقدت النُّطق في عالم مليء بأصوات الغوغاء؟

• ولكن من الواضح لي أنها بالفعل فقدت شيئًا ما، وهي لا تزال في رحلة بحث لصدى الصوت المفقود بداخلها، وردد قائلاً: لا بد أن أقابلَها أحدثها، فهذه وحدها هي مَن أبحث عنها منذ زمن بعيد، لقد طال انتظاري كثيرًا لأنثى مثلها، أشعر أن رُوحَها هائمة تريد الاستقرار، تبحث عن الأمن، فأمانها عندي أنا، إنها تسكن قصائدي وأشعاري، أعلمها جيدًا، إنها هي مَن أبحث عنها منذ أن عرف البشرُ معنى الحب؛ فلوحاتُها تنطق عنها، وعالمها عالم خاص رومانسي، شديد الخصوصية، عالَمٌ يظهر فيه الرجل بوضوح جلي، عالم يثبت أننا أمام امرأة فنانة، امرأة، نعم امرأة، عانيتُ كثيرًا كي أجدها، امرأة أحبَّت وتعذبت وفقدَت، امرأة تحور الصمت بداخلها وتبدل؛ ليصبح مناجاة في محراب الحب، الصمت أصبح تكوينًا جسديًّا لأنثى في حالة عشق واحتياج، الصمت لم يعد صمتًا، بل أصبح حُلمًا أراه في وجوه النساء اللاتي أبدعت في رسمهن.

أرى نداءك حبيبتي في لوحاتك؛ فصمتك يناديني، يصرخ بداخلك قائلاً: لماذا أنا مستقبلة لكل مشاعرك بعقل وقلب الأنثى، وأنت دائمًا مُوصَد الأبواب؟

وظل شاردًا يسأل نفسه: هل وقعت تلك المسكينة فريسة لمثل هذا النوع من الحب الذي لا يأتي إلا مرة واحدة، ولا تسمع المرأة بعده لنبضات قلبها سوى مرة واحدة، وإذا فقدت هذا الحب يصمت الكون كله إلا من أنَّات وآهات صوت قلبها؟!

أعلمك حبيبتي جيدًا؛ فأنا أنتظرك منذ زمن بعيد.

وعزم أمره، لا بد من محادثتها، لا بل لا بد من رؤيتها، لا بل لا بد من طلب ودِّها، لا بل لا بد من اكتمالنا؛ فهي قصيدتي الناقصة، أنشودتي المفقودة، ملاك أحلامي الغائبة.

• وبينما هو مستغرق في تساؤلاته وأمنياته وجدها داخلة إلى صالة العرض كما تمنَّاها دائمًا، جميلة الجميلات، سيدة بنات أفكاره التي أرهقته طويلاً كي يبثَّها أشواقه وآماله وأحلامه، مَلاك ذات جمال خاص، ولكنه ذاك الجمال الحزين الذي لا يستطيع وصفَه إلا إياه، ولا يشعر به إلا شاعر مثله.

• قال لها: ألا تعرفينني؟

 ردت بصوت خفيض مليءٍ بالشجن: هل التقينا من قبل؟

• بادرها بالرد: نعم التقينا.

التقينا منذ أن نزلت حواء لتبثَّ الحياة على الأرض.

التقينا منذ أول بيت شعر قاله قيسٌ لليلى، فانتشر في البيداء.

التقينا منذ أن بدأت إيزيس رحلتها في البحث عن أشلاء.

التقينا منذ أن عرفت طَيْبةُ لغةَ التوحيد في الماضي البعيد.

التقينا في حالة من الوجد الصوفي برُوحينا.

أتريدين دليلاً على لقائنا؟

اسألي دقات قلبك: ماذا تقول؟

اسألي ومضات فكرك: ماذا تقول؟

اسألي حزنك الساكن بين الضلوع: ماذا يقول؟

سيقولون لك: التقينا بروحينا لا بجسدينا.

• تبسمت ابتسامة هادئة، وقالت: شاعر أنت بالقطع.

• قال: نعم، وما وجد شعري إلا ليصفَك أنت مليكتى؛ فأنت تمتلكين عقلاً في حالة تفكير دائم، لم تبعدي كثيرًا عن جوهر ذاتك وكينونتك، وإلا ما كانت لوحاتك تنطق بكل هذا رغم بشاعة الصمت.

• صامتة هي لا تنطق، ولكنها في حيرة من أمره: إنه يقرؤها، يفهمها، يغوص داخل خلاياها، فلماذا ترد؟ وبماذا ترد؟

• وكأن الكلمات مُحِيَت تمامًا من ذاكرتها، لم تجد ما ترد به عليه، بل نظرت إليه وشردت بأفكارها وكأنها هي الأخرى تحوَّلت للوحةٍ صامتة ضمن لوحاتها المعلَّقة على الحائط، لا تملك سوى الصراخ المكتوم في صمت، ولا يملك هو إلا الاستجابة لأصداء هذا الصمت!

• قال لها: أرجوك ردِّي على تحدثي، أريد سماع صوتك، أنتظر ردك منذ زمن بعيد، أنا لست رجلاً أهوج رأى امرأة جميلة فوقع في هواها؛ إنني رجل مكتمل الرجولة، تجاوز عمري الأربعين بقليل، لي مكانتي الأدبية والفكرية، ولكني فعلاً أبحث عنك منذ زمن طويل، وانتظرتك كثيرًا، ولم أكن أعلم أن اليوم هو يوم سعدي، ولحظتي هذه هي أهم لحظات عمري على الإطلاق.

صمتت وصمت، واستمع كل منهما لأصداء صمته، ولكن في لحظة خاطفة شق حوار الصمت البليغ الذي دار بينهما صوت جَهْوري لرجل ذي قسمات حادة وهيئة رسمية مثل هؤلاء الذين يسيرون فيتبعهم العشرات من ذوي القامات الطويلة والنظارات السوداء، رجل يتسم بالوقار الشديد، والنظرة المغلَّفة بالغموض، ما أن دخل إلى صالة العرض وكأنه عزف على اللوحات المعلقة على الجدران بدخوله عزفًا من نوع خاص، زادت ضربات قلبها، وزادت أصداء الصمت بين اللوحات، تفحصه بنظرة شديدة ولم يُعِرْه اهتمامًا كأنه ليس واقفًا أمامه، ومال عليها فارتعدت فرائسها، قائلاً: هيا حبيبتي، كفى مضيعة للوقت، لا بد أن أعود إلى البيت الآن، عندي أعمال هامة لا بد من إنهائها، وعند انصرافه نظر إليه نظرة غضب وقال له: معذرة، "أصلي لا أطيق البعد عن المدام"، خاصة إذا كان ورائي عمل مهم، واليوم عندي أعمال هامة للغاية.

No comments:

Post a Comment