Showing posts with label فكر و معرقة. Show all posts
Showing posts with label فكر و معرقة. Show all posts

Friday, August 9, 2013

تأملات في الخرافات



 الخرافة هي ما يعتقده الناس أنه صحيح وحقيقة لكنه بالأصل باطل لا أساس له ، وقد نكون نحن إحدى أكثر الأمم تأثراً في هذه الخرافات لأن المنطقة العربية استعمرها الناس من الحضارات الأخرى واحتككنا بحضارات كثيرة أثناء الفتوحات الإسلامية فجمعنا كل تلك الخرافات التي للأسف هي أقوى من الحقائق لأنها مثيرة للغاية.


- من أكثر الخرافات غرابة من ناحية الإيمان بها ما يسمى بطاسة أو كاس الرعبة ، فنحن نقوم بعملها وصناعتها ومن ثم نشرب بها عند خوف إنسان ، السر الحقيقي لفائدة هذه الخرافة هو اطمئنان الإنسان إلى أنها ستجعله ينسى الخوف فيقنع نفسه بذلك ، أي ببساطة المسألة اقتناع بخاطىء يؤدي إلى نتيجة صحيحة.

- في مسلسل كوميدي طريف، يؤمن أحد الفتيان بأن قطعته النقدية الحمراء هي جالبة الحظ له، وعندما تضيع منه يمر بمعاناة كبيرة ويحاول كل أهله إقناعه بأن لا وجود لمفهوم الحظ لكنه يبقى مكتئباً حتى يقوموا بتزوير قطعة نقدية له ويقولون له هذه قطعتك الضائعة فتعود النتائج الإيجابية لحياته والسبب الثقة طبعاً، وعندما يعرف أن القطعة مزورة لا يعترف بخرافاته بل يقول "هذه قطعة جالبة للحظ أكثر من القديمة".... ببساطة هناك عقول ترتاح للعيش مع الخرافات!

- أسوأ ما في الخرافات أنها توقف عقل الإنسان عن التفكير وتجعله غير قابل للإقناع ولو بأدلة من كل جهات العالم ، فكثيرون عندما تم إقناعهم بأن المعلومة التي يمتلكونها خاطئة يقولون يبدو أنها مسألة فيها وجهة نظر وهذه أكبر درجة تنازل ممكن الحصول عليها.

- تصبح الخرافة أقوى لو تم دمجها بالدين أو التاريخ، فكثيرون لا يستطيعوا الاقتناع حتى الآن أن نيل أرمسترونغ لم يسلم، وكثيرون لا يستوعبون أن مايكل جاكسون أصبح أبيض بسبب دواء لمرض البهاق وليس بسبب عملية تجميل، عند ربط الخرافة بشخص معروف ومع بهارات الإثارة يصبح من الصعب منع الناس من نشرها .. لأنها مسلية فقط.

- الرأي العام لو كان جاهلاً يرفض النقاش العلمي تصبح الخرافة قادرة على تحريكه بشكل سهل جداً، ومجتمع تسود فيه الخرافة يستحال أن يكون منتجاً قادراً على حكم نفسه وقيادة أمره ، فحتى الصين عندما كانت تؤمن بالخرافات احتلها اليابانيون بـ 23 الف جندي فقط والآن نتحدث عن قوة ضاربة.

- يحكم الديكتاتور شعبه بالنار وبالخرافة ، فالشعب الذي ينجح حاكمه بنشر الخرافات في عقله يصبح سهل الحكم، فيكون المهدي مرتبطاً بقصة انقلاب في الوطن ويظهر أخر في القمر وثالث يصبح على علاقة مباشرة بالنبي الخضر....لا أنكر المهدي ولا أنكر القمر ولا أنكر الخضر لكنني أنكر القصص المؤلفة بحقهم لصالح جهات تعيش بيننا.

-  الخرافات أنواع ؛ صحية تقتل الجسد وعلمية تقتل العقل ودينية تقتل القلب والمنطق واجتماعية تجعلنا سذجاً.

- كل الخرافات يمكن النجاة منها إلا خرافة الإنسان مع نفسه ، كأن يقنع نفسه بالنجاح وهو فاشل أو بالطيبة وهو شرير أو بالمرض وهو سليم ... وهنا تصبح الخرافة جزءاً من كيان وليست دخيلة عليه ولا يعافى منها الإنسان عادة إلا بعد فوات الآوان.

- نستخدم مصطلح خرافة ولا نعرف مصدره، والقصة التي بدأ منها هذا الاسم تعود إلى شخص بالغ بقصته واسمه خرافة، فخراافة رجل زعم ان الجن استهوته مدة...ثم لما رجع الى قومه أخبرهم بما رأى فكذبوه حتى صاروا يقولون لما لا يمكن وقوعه "حديث خرافة".

- ما يحمينا من الخرافات هو تحليل الأمور قبل الاقتناع بها، لأننا ما إن اقتنعنا بها لن يعود منطقياً تفكيرنا به ولو فند لنا كل البشر هذه الخرافة فسوف تبقى أطرافها عالقة في عقولنا ... لذلك الفلترة قبل الشرب!

Tuesday, August 6, 2013

فن صناعة الأمل

الكثير من الناس يستطيع أن يملأ قلبَك يأسًا وحياتَك قنوطًا، ونفسك تعاسةً، وينتقي لك من الأخبار ما يؤكد وجهة نظره في الشؤم واليأس، بينما القليل جدًا من الناس من يملأ قلبك أملًا ونفسك تفاؤلاً ويؤكد لك وجهة نظره ورؤيته بالكثير من الأحداث والوقائع والتحليل للأوضاع الراهنة، وآليات الانتقال من السيئ إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن.
الناتج في الحالة الأولى (حالة اليأس) إنسان منهزم نفسيا، متشائم، قانط من أي إصلاح، مدبر عن الحياة، مقبل على هموم ونكد وتعاسة، بينما الناتج في الحالة الثانية (حالة الأمل) إنسان متفائل فرحٌ سعيدٌ مسرورٌ مقبلٌ على الحياة والعمل والإنتاج، لديه أمل لا يغيب في غدٍ أفضل، وحياة أجمل.
إن صناعة الأمل فنٌ لا يتقنه إلا بعض الناس فقط، وهو عملٌ ليس بالسهل اليسير، كما أنه ليس بالصعب العسير، بل يقوم على نظرة تفاؤلية إيجابية للحياة.
تتبنى المعارضة الهدّامة دائمًا عمليةَ اليأس من الإصلاح لتنفير الناس من النظام الحاكم، بينما المعارضة البنّاءة تنتقد النظام القائم لتطوّر منه للأحسن، لا لتهدمه تمامًا وتقوم هي على أنقاضه.
المُصلح الحقيقي مطلوب منه أن يبعث الأمل دائمًا في نفوس الجماهير وأن يبتعد كل البعد عن هواجس اليأس، وبواعث القنوط في أنفس البشر، وهو مُطالبٌ ليس فقط ببعث الأمل في نفوس المؤيدين لتثبيتهم على مواقفهم بل أيضًا في نفوس المعارضين لإثنائهم عن نظرة التشاؤم واليأس التي تطفئ في نفوسهم أي بريق للإصلاح.
وتقوم على عملية نشر اليأس بين الناس أنظمة عالمية تدفع بالمليارات من الأموال لقنواتٍ مأجورة لتبثَّ في الناس الانهزامية والقنوط والنفور عن أي عمل يساعد على الإنتاج والبناء والتقدم، ويساعدها في ذلك الكثير ممن كانوا منتفعين من النظام السابق وممن تقوم حياتهم على السرقات والنهب والرشاوى ولا يستطيعون العيش في مجتمع نظيف خالٍ من الأمراض الأخلاقية قائم على العدل والمساواة بين الناس.
غير أنه في المقابل وبفضل الله تصطدم هذه القنوات وأمثالها من وسائل نشر اليأس بجبال من الأمل مترسّخة في نفوس الجماهير من واقع تجربتها الممتدة مع المنظمة الفاسدة  والتي لم يكن أحدٌ يتوقع أن تسقط رؤوسها بتلك السرعة، وكذلك من واقع إيمانها العميق المتأصل في نفوسها بحتمية وجود فترة انتقالية متأرجحة بين نظام كامل الفساد ونظام يسعى لإصلاح ما أفسده من قبله وبناء حضارة جديدة يهنأ بها البشر في الحاضر والمستقبل.
التفاؤل طريق الإصلاح، والأمل دافعٌ للعمل، والعمل طريق الإنتاج، والإنتاج المُتقَن هو أساس الحضارة والرقيّ والرفاهية.
دُعُونَا نتفاءل بغدٍ أفضل وواقعٍ أجمل وحياة هانئة وليكن هذا دافعًا لنا لمزيد من العمل والإنتاج.

صناعة الأمل والعمل

لا أحسب أن أحدًا يستطيع أن يتجاوز ما يمر بأمتنا من الأحداث دون أن يقف عندها ويطيل النظر فيها، ونحن نرى ونسمع كل يوم ما يفت في عضدنا، ويوهن من قوتنا، ويضعف من عزيمتنا، فعندما نرى كل أمتنا العربية -بما لها من عدد وعُدَّة، وسياسة واقتصاد، وطاقات وإمكانات- تجتمع لتعطيَ العدو الصهيوني المجرم فرصة لمزيد من إجرامه وعبثه بمقدساتنا وأعراضنا، وذلك بإقرار المفاوضات غير المباشرة مع الكيان الصهيوني، وقد رأينا في الأسبوع الماضي ما حل بالأقصى في صلاة الجمعة، وما سبق ذلك من ضم مسجد الخليل ومسجد بلال بن رباح إلى قائمة التراث اليهودي، وما زال العدوان مستمرًّا، وأمامَ كل هذا لا نسمعُ إلا أن هذا قد يفضي إلى توقف المفاوضات!!
إنني لا أقول هذا لترويج اليأس كما تفعل بعضُ وسائل الإعلام، إنما أردت لفت النظر إلى استغلال هذه الأحداث الكبيرة من أجل صناعة الأمل والعمل.
إننا نجد في كتاب الله صورة مكررة للعبرة والعظة يذكرها سائر أنبياء الله -عليهم السلام- في ظروف المحنة العصيبة والظلمة الشديدة:
- فهذا موسى بعد أن خرج مطارَدًا فقيرًا يرفع يديه قائلاً: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ فتفتح الأبوابُ وتتيسر الأمور، فيتزوج ويعمل، ثم يكلل كل ذلك بالنبوة، ويخص بتكليم الله .
- وأيوب بعد أن أقعده المرض وانقطعت أسباب الشفاء من البشر {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، فجاءت النتيجة الفورية: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84]، وجاء الفرج المتتابع بعد ذلك.
- وخاتم الأنبياء سيدنا محمد بعد سوء استقبال سفهاء الطائف يصلي ركعتين ثم يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني[1] أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)[2]. فساق الله له نفرًا من الجن فآمنوا به، وأنزل ملك الجبال ليكون تحت أمره، وبعدها بيسير كان الإسراء والمعراج.
وما هي إلا بضعُ أعوام حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وعمَّ الإسلام أرض العرب في أقصر مدة.
ويوم الأحزاب حين اجتمعت شدة البرد والجوع والخوف، وكان الموقف العصيبُ كما قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]؛ كان موقفُ المؤمنين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
إنه ليس مع الإيمان يأس، وليس مع اليقين عجز، فإن حصل اليأس أو العجز فثمة خلل في الإيمان، وضعف في اليقين.
نحن أمة الإسلام والقرآن، أمةُ: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فنحن الأعلون وإن ضعفنا من الناحية المادية.
نحن أمة اليقين بقول الحق I: {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
نحن أمة الوعد الرباني: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
نحن أمة محمد المبشرِ بقول الحق في حديثه الصحيح: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر"[3].
نحن أمة (حطين) التي استعادت فلسطين دون أن يمر على احتلالها قرن من الزمان، نحن أمة (عين جالوت) التي انتصرت على التتار الذين أبادوا الأخضر واليابس حتى أيس بعضُ الناس من القدرة على مواجهتهم، فضلاً عن الانتصار عليهم.
ونحن اليوم أمة عبد القادر الجزائري الذي قاد التحرير ضد فرنسا، وطردها بعد 130 عامًا من الاحتلال.
نحن أمة عبد الكريم الخطابي الذي أخرج الفرنسيين والإسبان من المغرب.
نحن أمة عمر المختار الذي أخرج الإيطاليين من ليبيا.
نحن أمة عبد القادر الحسيني الذي جاهد الإنجليز واليهود في فلسطين، وغيرهم كثير.
نحن أمة أطفال الحجارة، وشباب الانتفاضة، ورجال المقاومة وأبطال الجهاد في فلسطين الذين علَّموا الدنيا كلها أن الإيمان واليقين لا يهزمهما شيء، مهما كانت القوى المدججة بالسلاح.
نحن أمة الإيمان والعبادة.
نحن أمة الشرف والسيادة.
نحن أمة الصبر واليقين.
نحن أمة النصر والتمكين.
نحن أمة الرسالة للعالمين.
نحن أمة الشهادة على الخلق أجمعين.
إن وعد الله صادق لا يتخلف إن صدقنا مع الله: {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
فعلينا أن نقاوم الكسل والخمول في واقعنا؛ في العمل وفي العلم وفي الإنجاز! علينا أن نجود بوقتنا وجهدنا وفكرنا ومالنا لنصرة ديننا وأمتنا في أي ميدان من الميادين؛ خدمةً لمجتمعنا وأمتنا حتى نحدث تغييرًا في واقعنا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وعلينا أن نستعيد في قلوبنا قوة الإيمان واليقين والثقة بنصر الله، ولتكن أحاديثنا مع أبنائنا وطلابنا في مدارسنا وجامعاتنا فيما يؤهلهم ليكونوا رجالاً أبطالاً أصحاب همم عالية وعزائم قوية، ولنعلنها عالية: لا للكسل، نعم للأمل، لا للإحباط، نعم للجد والنشاط.
نسأل الله I أن يقوي الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل أملنا في الله عظيمًا، وتوكلنا على الله صادقًا، وعملنا لوجهه خالصًا.
د. علي بن عمر بادحدح

شباب آخر زمن


هذا العنوان اخترته قبل أكثر من عشر سنوات لمحاضرة ألقيتها على الشباب في نشاط صيفي، وقبل البدء وزعت أوراقاً على الجمهور ليكتبوا توقعاتهم عن دلالة العنوان؛ فجاء معظمها عن (شباب المخدرات) (شباب التقليعات) وهكذا، ثم اخترت العنوان نفسه لمحاضرة ألقيتها في إحدى الجامعات، وكررت السؤال وتكرر الجواب، وها أنا ذا اليوم أكرر العنوان نفسه.
في المرة الأولى تحدثت عن شباب المقاومة والانتفاضة في فلسطين، وقدمت نماذج منهم في العشرينات والثلاثينات من العمر؛ لكنهم قدموا أرواحهم في سبيل الله وأرعبوا العدو الصهيوني حتى صار يعد قتل الواحد منهم نصراً عسكرياً وإنجازاً استخبارياً من الطراز الأول.
وفي المرة الثانية تحدثت عن شباب التطوع والخدمة في أعمالهم المتنوعة لمساعدة المحتاجين وإغاثة المنكوبين والمحافظة على البيئة وحملات التوعية ونحو ذلك.
ففي كل مرة كنت أحرص على أن أقدم صورة إيجابية عملية شواهدها حية وأمثلتها قوية، وذلك لأنني مؤمن بأن في شبابنا خيرًا كثيرًا، وأن في داخله طاقة حيوية، وفي نفسه مشاعر خيرية، وفي فكره آراء ورؤى إيجابية، وأن المشكلة تكمن في أنه ليست هناك قنوات تستوعب الطاقة وتستثمر الحيوية وتوجه الفكر وتحول هذا الشباب إلى قوة دافعة منتجة.
أمتنا شابة، ونسبة الشباب في مجتمعاتنا هي الأكبر عالمياً، واليوم جلّ شبابنا متعلمون، ومع الانفتاح الإعلامي والثورة المعلوماتية صار أكثرهم مطلعين وجلّهم واعين، ورؤيتهم للواقع فيها طموح للأفضل ورغبة في التغيير والإصلاح، وعند مقارنتهم لواقع دولهم ومجتمعاتهم مع دول ومجتمعات أخرى أقل في الموارد والثروات وليس لديها
ما في الإسلام من شرائع محكمة، وأخلاق فاضلة، ومنهجية متكاملة؛ ومع ذلك يرون تلك الدول متفوقة علمياً، ومنتجة صناعياً، ومتقدمة اقتصادياً، وهنا نجد الاتجاهات مختلفة؛ ففئة تستسلم لليأس والإحباط، وقلة تهوي مع الملهيات والمخدرات، وجموع أخرى تتحرك لمزيد من التعليم والتأهيل والتطوير والتغيير.
وشباب اليوم – كما رأينا في الأحداث – هم شباب الثورة والانتصار، وهنا أسجل معالم جديدة لشباب آخر زمن .
إنهم شباب التقنية والتواصل في الفيس بوك والتويتر واليوتيوب والبلاك بيري .
إنهم شباب التعليم والتدريب من خريجي الجامعات والحاصلين على الشهادات والمنخرطين في الدورات .
إنهم شباب الوحدة الوطنية الذي يوحّد ولا يفرّق ، ويأتلف ولا يختلف .
إنهم شباب المدينة والحضارة الذي يحافظ على المرافق العامة وينظف الشوارع ويمارس السلوك الحضاري .
إنهم شباب السلم الاجتماعي الذي يرفض العنف ويمتنع عن التخريب ويتقن فن الحصول على الحقوق بإيجابية وحيوية وقوة وقدرة دون حاجة للمواجهة والعنف .
إنهم شباب الوعي السياسي الذي قدم نموذجاً في الفهم والتحليل وأسس بناء الدولة الحديثة .
إنهم شباب واعد لديه كثير مما يمكن أن يقدمه ويسهم به في خدمة مجتمعه ونهضة أمته .
وهناك قلق لمسته لدى بعض الغيورين أنهم يريدون لهذا الشباب صبغة دينية لها في أذهانهم صورة معينة، وأنا لست قلقاً بشكل كبير، ولا شك أنني محب وحريص على تدين شبابنا، ولكنني أقول إن تدينهم فطري، وإن كثيرين منهم ملتزمون بالفرائض ولديهم عاطفة إيمانية ورؤى إسلامية، ولا ننسى أن إسهامهم التقني والعلمي والعملي ودفعهم لعجلة الحياة المدنية هو إسلام؛ فالإسلام هو الحياة، فتحية لشبابنا.
 وآمل أن يقولوا لنا: " اللهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا وما لا يعلمون "، وأنا أتمنى أن يكونوا أعلى من قول القائلين ومدح المادحين، وأن يترجموا قول الشاعر:
قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود *** ورسمنا خطى للعز والنصر تقود
وأن يجسدوا الصورة المتمثلة في قول الشاعر:
على قدر أهل العزمِ تأتي العزائمُ *** وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ
وأخيراً أهديهم قول إقبال:
همُمُ الأحرار تحيي الرِّمَما * نفخةُ الأبرار تُحيِي الأُمَمَا

شهوة الحكم والسقطة التراجيدية..!


في قصيدة "الفردوس المفقود"، ملحمة الشاعر الإنجليزي الكبير جون ميلتون في القرن السابع عشر، يحكي الكتاب الأول قصة "إبليس" الذي عوقب بطرده من جنة عدن إلى جهنم بعد ثورة فاشلة قام بها لمحاولة السيطرة على السماء. وقد عبر إبليس، المعتد بشبابه وجماله عن قدره التراجيدي حين قال عبارته المشهورة "أن تحكم في جهنم خير من أن تخدم في الفردوس".

وعلى الرغم من التأويلات التي تناولت إبليس ميلتون بإيجابية، باعتباره ثائراً، فإن سلوكه يصنف في الأدبيات الملحمية في باب "السقطة التراجيدية" التي تودي بصاحبها إلى الكارثة. ومن ذلك سقطة "أوديب" و"فاوست" اللذين أودى بهما الغرور وحب معرفة ما لا يلزم.

فكرة الحكم في جهنم هذه تجعل المرء يتساءل عن هوس حكام العالم الثالث بالسلطة. ولن أتحدث عن الأعباء التي ترتبها على الحكام مسؤولياتهم عن إدارة أقدار الناس بحيث لا يستطيعون النوم، لأنه يبدو أن ما يؤرقهم أول ما يكون هو همّ الاحتفاظ بالسلطة، ونقطة.

لكنني أتساءل بالذات عن المتعة التي يمكن أن يجنيها المرء من الحكم في دول أشبه بجهنم، ثم في العمل على إبقائه جهنم كما هي، مليئة بأشكال العذاب والترويع ولا شجر فيها غير الزقوم. هل يكون ذلك لأن تحويل جهنم إلى جنة ربما يغوي الناس الناعمين فيها بمحاولة المنافسة على الحكم؟ أم لأن أقصى مطمح للناس المنشغلين بعذاباتهم لا يمكن أن يتعدى مجرد الاستراحة من العذاب للحظة واحدة لالتقاط الأنفاس؟!

المشكلة الأخرى، هي أن الحكام في العالم الثالث لا يتمتعون بميزة إبليس في ملحمة ميلتون. فهم لا يحكمون في جهنم بدلا من أن يخدموا في الفردوس. ولا يستطيع أحد أن يزعم بأن واقع الذل والتبعية للجهات التي عينت أنفسها آلهة أرضية على العالم حتى تخربه وتسرقه، تندرج في باب السيادة والحرية. وأن يخدم المرء مستبداً يهينه ويحدد له أقداره وأخلاقه وأعماله تجاه مواطنيه لا يمكن أن يعني أنه يخدم في الجنة. فأين فكرة الكبرياء والاعتداد التي كانت تودي تقليدياً بالبطل التراجيدي وتسيء عاقبته؟!

على العموم، يبدو أن الحاكمين يبتكرون سقطة تراجيدية من نوع جديد، ويجب أن تضاف إلى عناصر الملحمة التراجيدية. فالبطل التراجيدي تسقطه شهوة الحكم، لمجرد شهوة الحكم، سواء كان ذلك في جهنم أو أي مكان. ولا أتصور أن هناك مكاناً واحداً في أي جزء محكوم من العالم لا يشكل جهنم كاملة على الأرض، تضج بصرخات المعذبين. فما الذي يغري أحدا بالخدمة والحكم في جهنم؟!

بقلم: علاء الدين أبو زينة

مديـنـة مـن بـلـــــور

الانثى تنهض من سبات عميق.. من غيبوبة صمت. ثائرة على كل شيء

في عينيها لمعة غريبة.. غضب نسائي تراكم منذ عصور

تنظر حولها.. تسير.. الساعات تهدر مثل قطار لا يأبه.. يدوس ما يراه امامه

الانثى تنهض.. تتفادى القطار

تقترب من نوافذ الغرفة.. تفتحها.. يتسرب نور باهر، اشتاق ان يدخل غرفا نسائية منذ الاف السنين

يَدخل النور طفلا منتشيا.. يحضنها.. يلتف حولها.. يُقبل جسدها.. يدخل روحها.. ويغسلها من غبار الزمن

جميلة هي هذا الصباح، بثوب شعاعي بهي.. يتلألأ وجهها.. تشع عيناها.. يطلع من جلدها ينبوع نور

مدت يدها تتحسس جسدها.. تمر فوق تلال خضراء، مخملية الملمس.. ما استطاعت يد ان تلمسها بحنو دافئ، ليس شهوانيا فحسب.. بل بحنو انساني جميل.. يلمس

واجهة جميلة لعالم سري عميق.. لأحاسيس بركانية هائلة قد تنفجر في كل لحظة

من كل الابواب خرجت.. دون وجهة خاصة

طرقات المدينة كما هي.. بزعيقها المباغت.. بجنونها البشري.. الناس غادية رائحة.. دون ملامح

تتقدم بخطوات واثقة في الطرقات. المدينة تعج بالبشر.. اقدام تحفر الأرض ذهابا وايابا

بركان ثورة يتقدم بين الناس.. يسير باحثا عن نفسه.. يريد ان يكون. ماذا يكون؟؟ لا يدري
يد خفية تأتي.. تمسكها من معصمها.. تشدها اليه.. يسير الى جانبها. تنتفض.. ثم تسلم نفسها لتيار الحياة

“قد يكون فارسي.. جاء يدق ابواب قلبي..”

تسير معه من شارع الى اخر.. دون اكتراث لعيون متسائلة

كان يتكلم طول الطريق.. يغرقها ببحر كلام.. لم تصل قطرة واحدة الى روحها. كلامه كان تحنيطا لها.. لا غير

قررت ان تكمل السير معه.. قد يكون ظلما ان تحكم عليه من كلمات، ربما ورثها من اجيال سابقة كي يستميل امرأة اليه

وصل معها نهاية الطريق.. بعدما ظن انه غسلها بكلام مقدس. دنا منها. وضع يديه على وركيها.. تسلقت عيناه ثدييها.. واحتضنها بعنف

انتفضت بين يديه. ابتعدت عنه.. نظرت اليه بدهشة.. بدا وجهه دون وجه.. صار حجمه يصغر.. يصغر.. صار عقلة اصبع

هربت منه بسرعة.. ليس لديه ما تبحث عنه.. لم تكن يداه فرشاة ترسمها بحنو انساني. لا بد ان تستمر.. هنالك رجل ينتظرها خلف الأفق.. سيحضنها بحب

انطلقت من جديد في طرقات المدينة.. الرجال حولها ينظرون اليها.. واجهة فقط.. لا يرون ابعد من جسدها

ألسنتهم تلهث وراءها.. انها انثى.. انها امرأة. كل واحد يلقي حبلا اليها.. يتحول فجأة الى صياد

تركض وتركض بين الوجوه.. وجوه دون ملامح.. عيون مغلقة

نساء تقف خلف الابواب.. تنظر اليها باحتقار. “امرأة خارجة عن قانوننا.. عليها ان تعود الى بيتها.. الى مصباحها السحري.. تغفو الف سنة اخرى”

رجال يضحكون. تارة يصيرون واعظين.. يقتربون منها، يطلبون منها ان تعود الى طبيعتها.. طبيعة المرأة ان تعيش في غرفة الصمت

واخرون يربتون على كتفها.. يقولون انهم يحبون المرأة المتحررة.. وعيونهم تخفي شهوة جامحة يودون افتراسها في كل لحظة

تركض بين الطرقات.. بين الغام اسئلة.. كل خطوة تفجر الف دهشة.. تفجر الف خيبة.. ضحكات الناس تعلو.. يلهثون

فجأة.. توقفت عن الركض.. خلعت ملابسها.. امسكت سكينا.. قطعت ثدييها.. مزقت جسدها.. فتحت ذراعيها وادارت وجهها لحشد كبير

عرضت جسدها المشوّه لهم.. واجهة متكسّرة.. لم يستطع فارس ان يرى ما بداخلها من جمال

توقفوا جميعهم عن الركض .. اصطدموا بانثى ليست انثى

جمعوا خيبتهم.. اداروا ظهورهم.. وعادوا من حيث اتوا

هي استمرت بسيرها.. دون ملابس.. دون انوثة.. تخرج منها فراشات نور.. لا يلمحها احد

بقلم: أحلام رحال

المتنبي قال من يبصر عيونك يعشق وبغيض الى الجاهل المتعاقل

احببت (المتنبي) منذ كنت في ثانوية المربد في البصره مدينة النخيل والشعر والتاريخ، وكان الباعث الاكبر لهذا الحب مدرسنا الاستاذ محمد الصانع. كان الصانع طيب الله ذكره، من ابناء الزبير وهي قرية يسكنها قوم من الفقراء على اطراف الكويت والسعودية يوم لم يكن فيهما قطرة من النفط. النفط الذي قتل العراق واحيى كل من السعودية والكويت، اما العراق العريق العتيد فقد انقلب الى ماخور للعصابات الذين ليس لديهم ذرة من الشرف. الحقيقة ان الاستاذ الصانع كان مولعا بالمتنبي وهو الذي جعلني مولعا بالمتنبي الذي كان يصوغ الشعر صياغة فريدة، اما محمد الصانع فقد قصد السعودية فكان له هذا خير قرار.

 المتنبي لم تأته الحياة لما ينشده فكانت مأساته سلسلة من الفشل. كانت علاقته مع سيف الدولة الحمداني في حلب الشهباء حسنة ولكن ما لبثت تلك العلاقة ان انقلبت فوق ذلك فقد تكاثر اقزام الشعر في منافسته الى درجة انه راح يستعطف سيف الدولة الحمداني لتخليصة من هؤلاء الثعالب، فوجه المتنبي شعره لسيف الدولة في صيغة المفرد لا الجمع مستغيثا قائلا (اغثني فداك فانني انا الشاعر المعنيي والآخر الصدى) و (ظعيف يقاويني قصير يطاول واغيض من عاداك من لا تشاكل – وما طبي فيهم بغيض الى الجاهل التعاقل).

 المتنبي عاش حياة مضطربة اذ كان ينشد العلى الا ان الظروف في حلب لم تاته (كما يشتهي السفن). وعندما تدنت اموره مع سيف الدولة، قصد المتنبي كافور الاخشدي المخصي الحاكم على مصر فمدحة وعندما لم ياتيه كافور الاخشدي بما يشتهيه هجاه قائلا (وكم بمصر من المضحكات لكنه ضحك كالبكى بها نبطي من اهل السواد يدرس انساب اهل الفلى)، هكذا مشت الامور مع المتنبي فانعكست في قصائده ولكنها قصائد مازالت حية يتغنى بها الشعراء والناس في دنيا العرب. ولد شاعرنا الكبير ابو الطيب المتنبي في كوفة العراق.
 قيل عنه كان ابن سقاء يسقي الماء بالكوفة، وقيل انه من كندة، وهم ملوك يمنيون، قيل عنه انه كان نغلا، كانت طفولته تتميز بالحرمان، ثم تنقل بين العراق والشام في زمن مضطرب تكاثرت فيه الفتن. 

المتنبي كان شاعر وفق بين الشعر والحكمة، كان اكثر اهتمامه بالمعنى يسكبه في بيت واحد مهما اتسع ويصوغه بأبدع الصياغة التي تأخذ بالألباب. أطلق الشعر من قيوده التي قيده بها (أبو تمام) فخرج عن أساليب العرب الموروثة، لكنه كان إمام الطريقة الإبداعية في الشعر العربي آنذاك. شعر المتنبي صورة صادقة لعصره عصر الثورات والاضطرابات كان شعره انعكاسا لعهده هذا الا ان شعره تتجلى فيه قوة المعاني وألاخيله غير المعهودة من قبل.
 اما ألفاظه فجزلة وعباراته رصينة وأخيلته خصبة، الى درجة ان الشاعر الضرير (أبو العلاء المعري) كان يجل المتنبي ومعنيا بشعره. في حادثة ادبية طريفة حدثت لابي العلاء المعري عندما زار بغداد في وقت متأخر، اذ زار مجلس (الشريف المرتضى) الادبي الذي كان قائما في بغداد آنذاك وعندما دارت الاحاديث، اخذ الشريف المرتضى يسيء الذكر للمتنبي هنا انفعل ابو العلا المعري فرد قائلا يكفي المتنبي فخرا انه القائل (لك يامنازل في القلوب منازل) فما كان من الشريف المرتضى الا الانفعال والغضب، فصاح غلمانه آمرهم (اخرجوا هذا الاعمى من هنا)، لان ما ذكره المعري انما كان قصيدة المتنبي التي مطلعها (لك يامنازل في القلوب منازل) تتضمن قوله (واذا اتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة باني كامل) وتلك حادثة يذكرها التاريخ. عرف عن المتنبي كان قد ادعى النبوة لرفعته في الشعر.
 اذ قيل عنه عندما اراد مدح سيف الدولة طلب منه ان يلقي قصيدته بين يديه جالسا لا كما كان يفعل الشعراء، فأجازه سيف الدولة أن يفعل ذلك، وكان سيف الدولة يجزل علية العطاء وجعله من أخلص خلصائه، كانت بينهما مودة، تعد (سيفياته) أصفى شعره. غير أن المتنبي كان يكثر الثناء على نفسه في القسم الاكبر من قصائدة، وكان يجزل الثناء على نفسه قبل ان يبدأ بمدح سيف الدولة، لهذا حدثت االجفوة بينه وبين سيف الدولة ووسعها كارهوه اذ كانوا كثراً في بلاط سيف الدولة. قيل أن(ابن خالويه) رمى دواة الحبر على المتنبي في بلاط سيف الدولة، فلم ينتصف له سيف الدولة، طعن في هذه الرواية كثيرون لأسباب متعددة. 

بعد تسع سنوات في بلاط سيف الدولة حدث الجفاء الأخير، زادت حدته ما كان كثيرون يكرهون المتنبي، قيل ان السبب في هذه الجفوة ان المتنبي كان يعشق (خولة) شقيقة سيف الدولة التي رثاها المتنبي في قصيدة ذكر فيها حسن مبسمها، كان ذلك لا يليق في رثاء بنات الملوك. انكسرت العلاقة الوثيقة التي كانت تربط سيف الدولة بالمتنبي، غادر المتنبي حلب قاصدا مصر حزيناً خائباً ليواصل النظر في أطماعه السياسية ذكرها في شعره اذ قال قصيدته الشهيرة (واحر قلباه ممن قلبه شثم ومن بجسمي وحالى عنده سقم) و (مـا لـي أُكَـتِّمُ حُبّـاً قـد بَـرَى جَسَدي وتَــدَّعِي حُـبَّ سَـيفِ الدَولـةِ الأُمَـمُ) و (قــد زُرتُـه وسُـيُوفُ الهِنـدِ مُغمَـدةٌ وقــد نَظَــرتُ إليـهِ والسُـيُوفُ دَمُ) ثم يعاتب المتنبي سيف الدولة (يــا أَعـدَلَ النـاسِ إِلاَّ فـي مُعـامَلَتي فيـكَ الخِصـامُ وأَنـتَ الخَـصْمُ والحَكَمُ) وفيها قوله (بــأَيَّ لَفْــظٍ تَقُـولُ الشِـعْرَ زِعْنِفـةٌ تجُــوزْ عِنـدَكَ لا عُـرْبٌ وِلا عَجَـمُ) وفيه وصف لاعدائه ثم يقول (الخَــيْلُ واللّيــلُ والبَيـداءُ تَعـرِفُني والسَـيفُ والـرُمْحُ والقِرطـاسُ والقَلَـمُ) البيت الذي اورده موارد الموت) بعدئذ لعلاقة المتنبي بكافور الاخشيدي المخصي قصة اخرى في تاريخ الادب اذ كان كافور الإخشيدي عبداً زنجيا مخصيا، تولى الحكم في مصر في عصر دولة المماليك، قصد المتنبي الفسطاط عاصمة مصر الاخشيدية إذ ذاك مدح كافوراً فوعده بولاية طمعاً في إبقائه بالقرب منه، ولكنه لم يفي العهد للمتنبي كان يريد ذلك لقهر حساده وانقضت سنتان والوعد لا يزال وعداً فشعر المتنبي بمكر كافور فانحاز إلى (فاتك أبو شجاع) احد قواد الاخشيدي لقي منه حسن التفات واخلاص ومودة، إلا أن الحظ لم يمتعه به طويلاً، مات (فاتك أبو شجاع) فجأة فترك للشاعر لوعة ما بعدها من لوعة، فعزم الهروب، الا ان كن كافوراً منعه وضيق عليه خشية من حدة هجائه؛ في عام 962 استطاع الهرب. فهجى كافوراً هجاء ضمنه كل ما في نفسه من مرارة (كم بمصر من المضحكات لكنه ضحك الباكا – بها نبطي من اهل السواد يدرس انساب اهل الفلا). قصد بغداد خلالها، التف حوله علماء اللغة والنحو كعلي البصري، والربعي، وابن جني، فشرح لهم ديوانه واستنسخهم اياه، ثم برح بغداد وقصد ابن العميد في أرجان، وكان ابن العميد وزيرا لركن الدولة البويهي فمدحه، ثم انطلق إلي شيراز نزولا عند طلب عضد الدولة السلطان البويهي، لقي حظوة كبيرة هناك فمدح السلطان بقصائد عدة، منها قوله (فِدى لكَ مَن يُقَصِرُ عن مَداكا فلا مَلِكٌ إذَنْ إلا فِداكا). من اقوله الخالدة على مدى الدهور (اذا اتتني مذمة من ناقص فهي الشهادة باني كامل). 

قصة المتنبي مع الزمان فيها الكثير من الغدر فلم يأته الحظ ما يهواه الا انه بقي شعلة لامعة في تاريخ الشعر، اما اهل زمانه فقد هاموا به هياما. قال المتنبي مرة (احاد ام رباع في سداسي لليلتنا المنوطة بالتنادي) فدوخ العرب بهذا البيت اذ راح عشاق شعرة يتقاتلون في المقاهي ويتضابون بالنعل عن معنى هذا البيت، وعندما كانوا يسألون المتنبي عن معنى البيت، كان يجيبهم (سلوا ابن جني فهو اعرف بشعري مني) وابن جني كان احد ثقاة العربية، اما المتنبي فقول (أَنـامُ مِـلءَ جُـفُوفي عـن شَـوارِدِها ويَسْــهَرُ الخَــلْقُ جَرَّاهـا ويَخـتَصِمُ). أخر ما يمكن القول عن المتنبي البيت الشعري الذي قال فيه (الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم) وقيل انه كان في معركة فشرد منها لكن ابنه قال له الست القائل (الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم) اجابه المتنبي (لقد قتلتني والله) فرجع الى المعركة ولم يعد. قيل ان قاتله (فاتك الأسدي) لان المتنبي هجى اخته (ضبة) فقتل المتنبي ثأرا لشرفه كان المتنبي قد هجاها بقوله (ما انصف القوم ضبة وامه الطرطبة).

 المعروف ان المتنبي كان ينوى الوصول إلى بغداد؛ فحذروه كثيراً من لصوص الطريق من واسط إلى بغداد إلا انه لم يصغِ إلى أحد، فقتل وبعضهم يقول ان المتنبي قتل في غربي بغداد. شعر المتنبي جزيل وكبير والأن يتسائل الكثيرون هل ان سيف الدولة الحمداني هو الذي خلد المتنبي ام ان المتنبي خلد سيف الدولة الحمداني، اما الثقات يرون في المتنبي كان أخلد اهل زمانه بما فيه سيف الدولة الحمداني وكافور الاخشيدي. واجمل ما قاله المتنبي بعد فشله الذريع، عندما قابل فتاة ذات عيون قاتلة فقال (ولعينيك ما يلقى الفؤاد وما بقي) (وللعشق ما لم يبق مني ومابقي) (وما كنت ممن يخل العشق قلبه) (ولكن من يبصر عيونك يعشق). انه اجمل ماقيل في عيون قاتلة 

Thursday, August 1, 2013

بين فكر الأزمة وأزمة الفكر

على مرِّ التاريخ لم تتطوَّر أُمَّة أو حضارةٌ إلاَّ بالأزمات، التي كانت - في كل مرَّة - تقودها إلى تَجديد فِكْرها، مع تجديد عمْرانِها وأبنيتها، إنَّ الأزمة هي التي تُعطي لَها الفرصة للتَّجديد، ومُجاوزة أخطاء الماضي؛ ذلك أنَّ الأزمات هي الأصل في الحياة.

وما يُقال عن الفرد يقال عن الجماعة؛ فالفرد حين ينشأ أوَّل الأمر، ينشأ معزولاً عن كلِّ مشكلة، ومع مرور الأيام تتَثاقل المشاكل على كاهلِه، فقُوَّة شخصيته تَجعله يرى في كلِّ مِحنة مِنْحة، وفي كلِّ مشكلة فُرْصة، تَجعله يُدْرِك يقينًا أنَّ الليالي الحالِكَة تزيد النُّجوم بريقًا، وأن الضَّربة التي لا تُسْقِطك تقوِّيك، وهذا ما يَخلق له رصيدًا من التَّجربة تُشكِّل عنده مناعةً ضدَّ ما يمكن أن يُسْتَنسخ من المشاكل.

وإذا ما رجَعْنا قليلاً إلى الجماعات والمنظَّمات والدُّول، سلَّمْنا أنه مرَّ عليها من الأزمات ما كان من الواجب أن يصلِّب لديها روحَ المقاومة، ويَستخرج من داخلها كلَّ مكامن القوَّة والقدرة على تَجاوُز تلك الأزمات، وهنا لا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أنَّ درجة النُّضج تلعب دورًا مهمًّا في تلك الأزمات؛ بحيث قد يكون لبعض الجماعات من النُّضج ما يَجعلها تَمْلك القدرة على التنبُّؤ بالأزمات، مِن خلال جهاز إنذار تطوُّر مع كل ضخٍّ تربويٍّ وفِكْري وثقافي، واستجابات لتحديات العصر ومتطلَّباته من غير توقُّف.

والْمُلاحَظ أنَّ الأزمات في عصر العولَمة تنمو نُموًّا مُتسارعًا غيْرَ طبيعي، تتداخل فيه مؤثِّراتٌ متعدِّدة، بما لا يدَعُ الفرصة لأيِّ انتباه، خاصَّة عندما يسود جوٌّ من المشاحنة، وتبَلُّدِ الإحساس، والانتصار للمصلحة على حساب المبدأ، والعاجلِ على حساب الآجل، فإنْ وقَع ذلك سيكون مضاعفًا على الفِكر، الذي يُمثِّل حلقة الوصْل بين الواقع والمثال، وبين الممكن والْمَأمول.

ولَمَّا كان فِكْرُ الأَزْمة هو ذلك الفكْرَ الذي ينشأ كَردَّة فعلٍ عن الأزمة، كان من الضرورة بِمكانٍ الإشارةُ إلى بعض النِّقاط المهمَّة؛ حتَّى يُصبح هذا الفكْرُ وَقودًا محرِّكًا نحو الأمام، والخروج من الأزمة، والمتمثِّلة في:
1 - التفكير السليم:
فهو بدايةٌ وخُطْوة أُولى نَحو التصرُّف السليم، فلا يُنتظَر مِمَّن يُعاني قصورًا فكريًّا، أو تبَعيَّة فكريَّة، أو يَخضع لِبَرمَجة ثقافيَّة صمَّاء، أو تقف أمام سلامة تفكيره عقباتٌ متعددة، أو فجوات فكريَّة متنوِّعة - أن يَمتلك القُدرة على التفكير، بل سيصبح كمن يَنتظر الرِّعاية من غيره، أو يَسْتجدي حلولاً من الناس.

إنَّ المناعة الفكرية هي سِرُّ الصُّمود في الأزمات، وتِرْياقُ العلاج لِمُختلف الْهزَّات، فبعض الأفراد مثلاً بقي أسيرَ مرَضِ الكمال والأوهام، مع هزَّةٍ خفيفة تَهاوى؛ لأنَّ البيت الذي بَناه نُسِج من خيال الكتب والمُحاضرات والخُطَب الرنَّانة.

إنَّ أزمة وهْم الكَمال هي التي تَجعل صاحِبَها يتهاوى عند كمال الأزمة واشتدادِها؛ فهو لا يضع للتجربة معنًى، ولا للزَّمَن دَوْرًا، ولا للنمُوِّ والتطوُّر قيمةً، فقد غفل عنْ أنَّ الوعي يُولد مع الحركة، ويَنمو بنمُوِّها، ويتطوَّر بتطوُّرِها.

عند الأزمة يجب أن تتَّسِع الرُّؤَى لتتلمَّس الآفاقَ البعيدة؛ لأنَّ المرحلة تقْتَضي أن ينشغل الناسُ حينَها بالباب المفتوح، عِوَضَ الانشغالِ بالباب الذي أُغلق، ولكنَّ أزمة الفكر في العقل العرَبِيِّ هي أزمة اختزال، فالأزمة الواحدة قد تَشْتمل على عدَّة حوادث مُختلفة مِن حيث ما تَحويه من الخير والشَّر، فهل مِن المنطق السَّليم أن نعمِّم الخيْرَ الْمُطلَق فيها، أو الشرَّ المطلق؟
إنَّ فجوة التعميم تزيد غُموضَ الرؤية، وعُزوفَ النَّاس عن العمل، فالألوان ليستْ أبيضَ وأسْودَ فقط.

في الأزمة عادةً ما تُمارِس البرمَجةُ الصَّماءُ دورَها في توجيه العقول والقلوب، خاصَّة لَمَّا يزيد تأثيرُ الْهالة على الأفراد، بِما يُضْفِي على بعض الناس نوعًا من القُدسيَّة، يَجعلهم يُسْهِمون في توجيه الناس وحَصْرِهم في زاوية من الزَّوايا، تَمنعهم من الرُّؤية الكاملة، وحُسْنِ التَّشخيص الذي يوصِّلهم إلى العلاج، غير أنَّ مَحدودية الرُّؤية تحصرهم في دائرة من الصراع حول القشور، والتغريد بعيدًا عن السِّرْب، والعيش خارج العصر.

عند الأزمة تُصبح لُعبة المصطلحات سيِّدةَ الموقف، لا من حيثُ التوصيفُ والتدقيق، بل من حيث الاستغلالُ والتَّحوير، فكثير مِن الناس يستعمل مَقُولاتٍ قديمةً لَم يكلِّف نفسه حتَّى عناءَ البحث في صحَّتها، فضلاً عن صلاحيتها لِهذا الزَّمان أو غيره، فكم من مُنتَحِرٍ مات باسْم الجهاد! وكم من مُنْزلقٍ انزلق باسم التَّقْوى! وكم من مفرِّق فرَّق باسم الولاء! وهذا كلُّه ينحرف بنا دائمًا عن لُبِّ الموضوع.


2 - فَهْم الواقع:
إنَّ الواقع يَحتفظ لنفسه بقدْرٍ كبير من التعقيد والتَّشابُه؛ ولذلك كان من الضرورة بِمكانٍالتَّوصيفُ الجيِّد للمصطلحات، والفَهْمُ الدقيق للمفاهيم، وسيكون من المفيد جدًّا أن نبدأ دائمًا بذِكْر التَّعريف لِما نُريد بَحثَه، وتَحديد معاني المصطلحات التي سنستخدمها أثناء البحث، وهو ما يَجعَلُنا نُدْرك صعوبةَ هذا العمل وفائدتَه الكبيرة في آنٍ واحد.

وحينَها فقط سنضَعُ أرجُلَنا على العتبة الأولى من فَهْم الواقع، كما لا ينبغي أن نَغْفل عمَّا للمكان من قُدْرة رهيبة في توليد الْمَشاعر والمفاهيم المشترَكة بين أفراده، دون أن ننسى أن العولَمة وما تَحْمله مِن تناقُضاتٍ بِما جاءت به من ثورةٍ على الحدود والقيود، قد حَملتْ في طيَّاتِها مشاعرَ الفردية، حتَّى أصبحتْ كلُّ دولةٍ تَلُوذ بِمُحيطها الإقليمي وتوسِّعه، فأثناء الأزمات تُصنع الانتصاراتُ والانكِسارات من الدَّاخل، وأعظم الحروب تلك التي كانت في غُرَف مغْلَقة مع الأنفس، فهناك تُصْنع الانتصارات، وتَكون الهزائم.

ولَمَّا كان التغييرُ من الدَّاخل إلى الخارج، كانت النَّهضة من الدَّاخل إلى الخارج، وكانت الانتصاراتُ الفردية سابقةً للانتصارات الجماعيَّة، فعند الأزمات ينبغي أن يكون للوطنِ قيمةٌ ومعنًى، ينبغي أن يتعزَّز كوسيلةٍ لتوجيه الناس نَحو الغاية العظمى دون غلُو أو شوفينية.

عند الأزمات ينبغي أن يتحسَّس الفِكْرُ نبْضَ العصر، ويتجدَّد بما يتلاءم مع لُغَة العصر، فلا ينبغي أن تَحْصرنا الأزمة في زاويةٍ ضيِّقة، ننشغل فيها عن اللُّب بالقشور، ونفقد معها كلَّ قدرة على التطوُّر، والاستجابة للتحديات؛ لأنَّ إدمان الطوارئ يُشْعر صاحبه بالأهميَّة التي تَحْصر صاحبها في زاوية تَجعله يعيش خارج عصره، وتكبِّله بأوهام المؤامرة والمثاليَّة، وتجعله أسيرًا للتَّاريخ والماضي.

3- الْمناعة الفكرية:
عند الأزمات يَظهر دورُ الْمَناعة، مثلَما يَظهر دورُها عند مرض الجسم، المناعة الفكرية هي تلك المناعة التي تحصن الإنسان من الأمراض، وصدَق مالِكُ بن نبي حين قال: إنه قبل حكاية كلِّ استعمار هناك قصَّةُ شعب قابلٍ للاستخذاء، فلا نُغالي حين نقول: إنَّ التسلُّط والدِّكتاتورية هي نِتاجُ تسَلُّط الجهل وقلَّة الوعي، وانتشار ثقافة الخنوع والتَّبعية في المُجتمعات، فما قيمة مَن يَنتدب شخصًا آخرَ ليفكِّر مكانه، ويُقرِّر دونه؟!

إن الظُّلم الذي ناله التحرُّر الفكريُّ، والتبعيَّة للغير التي تفنَّنَت الأنظمة التربويَّة في التمكين لها، خلَقَتْ عند الأمة الإسلامية أزمةَ قيادة، فالأُمم عند الأزمات تبحث عمَّن يقودُها نَحو النَّصر، ولعلَّ المرَض الأكبر عند أمَّتِنا أن أشعَّة النَّقد دائمًا موجَّهةٌ نَحو الخارج، أمَّا الداخل فهو من المقدَّسات التي لا يتحدَّث عنها، إنَّ الفكر المنيع فِكْر قادرٌ على الاستمرار حتَّى في عصر العولمة الذي يتَسارع فيه الضخُّ الثقافي، وتتعدَّد فيه الأفكار، فإذا لم يتغيَّر الإنسان ويتطوَّر فسوف يفْنَى؛ لذلك كان من الواجب السَّيْرُ في تنمية قدرات الإنسان الفكريَّة؛ لينسجم ومتطلَّبات الْمَرحلة، ويتحصَّن عن كلِّ اغتراب فكري، أو استلاب حضاري.

الفكر الخلدوني في العصبية والعروبة

الفكر الخلدوني في العصبية والعروبة


لم تحتَلَّ مشكلةٌ من مشكلات الفكر الخلدوني بخاصة، والفكر التاريخي الإسلامي بعامة، المكانةَ التي احتلتْها نظرية ابن خلدون في العصبية، ودورها في قيام الدول وسقوطها.

وحول هذه المشكلة (العصبية والدولة) قدَّم الدكتور "محمد عابد الجابري" أطروحته في الفلسفة، وأمضى عشر سنوات في البحث، ساعيًا للوصول إلى "معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي"، ومع أنه بذل جهدًا علميًّا ضخمًا، إلا أن عمله الكبير لم يخلُ من بعض الاستنتاجات الخاطئة، وإن كنا نعترف بأنه أقرب إلى الموضوعية والعملية، من أمثال: "عبدالله العروي"[1]، وعلي أومليل[2]، وساطع الحصري[3]، ومهدي عامل[4]، ونور الدين حقيقي[5]، وغيرهم، فضلاً عن الدكتور طه حسين الذي لم يتوافر لدراسته عن "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"[6] الحدُّ الأدنى من شروط المنهج العلمي.

والفرق بين ما كتبه الجابري وهذه الدراسات، يشبه الفرق بين العمل العلمي الأكاديمي، والأعمال التي لا يحكمها المنهج؛ وإنما توجِّهها أيديولوجياتٌ مسبقة، تسعى إلى قهر النص وتوجيهه وجهةً تأويلية لحساب عقيدةِ كاتبِها.

كانت العصبية هي المفتاحَ الذي حل به ابن خلدون جميعَ المشكلات التي يطرحها سيرُ أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده، وقيمةُ آراء ابن خلدون تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريتُه في العصبية والدولة، وفي العلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة التي تُحدِّد في نظر ابن خلدون شكلَ العمران، وتجسِّد حركة التاريخ[7].

ومن خلال عدد من التساؤلات يقِيم الجابري دراسته الكبرى حول نظرية العصبية عند ابن خلدون:
لماذا تتحول العصبية من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة للمواجهة والمطالبة، ومن ثم تأسيس الملك والدولة؟ لماذا تضعف العصبية بمجرد بلوغها غايتها من المُلك، والشروع في جني ثمراته؟ لماذا تفسُدُ العصبية بالترف والنعيم؟ لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها؛ لتقوم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة؟ ثم لماذا كانت الحضارة "غاية للعمران، ونهاية لعمره، مؤذِنة بفساده"؟ وأخيرًا لماذا كانت حركة التاريخ الإسلامي حركةَ انتقال من البداوة إلى الحضارة، حركة تسير لا على خط مستقيم؛ بل على شكل دَوْرة؟[8].

وهذه النظرية الخلدونية التي يدير عليها الجابري بحثَه الكبير من خلال هذه التساؤلات - ترتبط بها - من وجهة نظرنا - قضيتان، هما مناط عنايتنا في هذا المقام:
أولاهما: صلة الإسلام بهذه العصبية.
ثانيهما: موقف الفكر الخلدوني من العنصر العربي.

ليست العصبية الخلدونية مرحلة واحدة تقف عند النسب والمصاهرة والدم؛ وإنما كانت هذه المرحلة هي الأساس - على الأقل - في مستوى البدو الذين كانوا موضوع البحث الاجتماعي والحضاري عند ابن خلدون، إن هذه العصبيةَ القائمة على الرحِم القريب في أقوى حالاتها الخاصة، والبعيد في حالاتها العامة - تتطور لتتجاوز النسب، وتصبح التحامل الحاصل بسببه؛ حيث تفقد العصبية معناها النسبيَّ بعد أربعة أجيال، فتصبح الجماعة العينة - أو العصبية - أقرب إلى الجماعة التي جمعها العيش لفترات في مكان معين، وارتبطت مصالحُها المشتركة؛ بحيث وجب عليهم أن يكونوا "قوة للمواجهة" في وجه التحديات.

وفي مجتمع البادية تبرز عصبية المستوى الأول (الخاص)، وفي مجتمعات العمران أو الحضارة يبرز المستوى العام؛ فعصبية البادية قابلةٌ للتطور مع الانفتاح على العمران، والمجتمع المتحضر تظهر فيه آفاقٌ جديدة للتعاون والتكافل، والدينُ أو الدعوة الدينية، سواء أكانت نبوة؛ كما وقع على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم دعوة إصلاحية؛ كما رأينا في العصر الحديث على يد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - تصبح الأكثر تفوقًا على العصبية في المستوى الأول؛ فهي الأقدر على جمع القلوب وتأليفها: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 63]، وهكذا كما يقول ابن خلدون: فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخُذهم بمحمودها، ويؤلِّف كلمتَهم لإظهار الحق، تم اجتماعُهم، وحصل لهم التغلبُ والملك[9]، بل يسرع ابن خلدون في عبور هذه المرحلة البدوية إلى مرحلة العصبية الدينية الجامعة، فيرى أن وحدة الدين تزيد العصبيةَ بالنسب قوة، وتصبح قادرة على إحداث انقلاب في الأوضاع، يتجلَّى في تحوُّل هؤلاء الرعاة الحفاة الموغلين في الفيافي والقفار إلى بُناةِ حضارة، ومشيِّدي عُمران، ومؤسسي ممالك ودُول[10].

بل إن ابن خلدون يكاد ينفصل عن عصبية النسب والدم إلا في مستواه البدوي، حين يقرر أنَّ ما من دولة كبيرة إلا وأصلها الدِّين (إما بالنبوة أو دعوة حق)[11]؛ فالدعوة الدينية تزيد الدولةَ في أصلها قوةً على قوة العصبية؛ بسبب أن الصِّبغة الدينية تَذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرِد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصارُ في أمرهم، لم يقف شيءٌ لهم؛ لأن الوجهة واحدة، والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه؛ فالعلاقة بين العصبية والدين علاقة تآزُر وتكامل، وبالدين وحده تتطور هذه العصبية - التي تشكل مؤقتًا ومرحليًّا بُوتقة التحام وانصهار - إلى مشروع حضاري تذوب فيه العصبية، وترتفع فيه الأخوة الإسلامية التي تجعل "سلمان منا أهل البيت"، "وأبو بكر سيدُنا وأعتق سيدَنا"؛ أي: بلالاً الحبشيَّ - رضي الله عنهم.

ومن الطريف أن الدكتور "محمد عابد الجابري" كاد يقترب من هذه الحقائق، بينما نجد بعض أساتذة الفكر الإسلامي المخلصين له، يأخذون على ابن خلدون رأيه في العصبية[12]، دون أن يُبصِروا مساحةَ هيمنة الدين على العصبية، الهيمنة شبة الكاملة عنده، إن رأيَ ابن خلدون - كما استخلصه الجابري - يتلخَّص في أن قوة العصبية مستمدة أساسًا من (الالتحام)، الذي هو ثمرة النسب، فإذا أضيف إلى هذا الالتحامِ الاجتماعي التحامٌ آخرُ روحيٌّ، كانت العصبية من القوة بحيث لا يقف أمامها شيء[13].

ويتألق المعنى الإسلامي للعصبية حين يتحدث ابن خلدون عن جماعات الإصلاح أو التغيير أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين لا يملكون قوة حقيقية للتغيير، فيدمرون أنفسهم، ويُسِيئون إلى الإسلام، فكأن العصبية إذًا تقوم على أي قوة قادرة على التغيير، وليس على العصبية القَبَلية والقومية.

فابن خلدون يرى أن تغيير الأوضاع الفاسدة لا يتأتى مطلقًا بمجرد الدعوة إلى أوضاع أحسن، بل لا بد من قوة مادية تنصر هذه الدعوة، والقوةُ المطلوبة هنا - وفي كل حالة مماثلة - هي العصبية؛ ولذلك نجده ندَّد - بقوة - بدُعاة الإصلاح، الذين بسبب جهلهم للطبائع ولأهميةِ العصبية على العموم - يكلِّفون أنفسَهم وأتباعهم من العامة ما فوق طاقتهم، ولا يحققون شيئًا سوى إثارة الفوضى، ونشر الاضطراب[14]، يقول ابن خلدون في هؤلاء المتهورين أو المتطرفين: "ثم اقتدى بهذا العمل بعدُ كثيرٌ من الموسوسين، يأخذون أنفسهم بإقامة الحق، ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم، ومآل أحوالهم، والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء، إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجًا، وإما إذاعة السخرية منهم وعدُّهم من جملة الصفاعين"؛ أي: الكذابين[15].

ومع أن الدكتور مصطفى الشكعة يندهش كثيرًا مما ذهب إليه ابن خلدون في شأن ارتباط إتمام الدعوة الدينية بالعصبية، وأن هذه الدعوة من غير عصبية لا تتم[16]، إلا أنه يعود ويذكُر أن ابن خلدون ينقُض ما ذهب إليه في شأن العصبية؛ حيث يفرد فصلاً عنوانه: (الدول العامةُ الاستيلاءِ، العظيمةُ المُلكِ، أصلُها: الدين) [17]، مقللاً من شأن العصبية، رافعًا من شأن الدين!

والحقيقة أن العصبية مرحلة خاصة، وظرف حضاري وتاريخي، والدين يكتنفها ويوجِّهها في إطارها الحضاري؛ إطار: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 63].

وهكذا نجد أن صلةَ الإسلام بالعصبية في الفكر الخلدوني، إنما هي صلة الرُّوح بالمادة؛ فالدين هو الذي يجعل من هذه (الكائنات القومية) كائناتٍ قابلةً للحضارة والفعالية والإبداع، والخروج من مستوى التحديات المناخية والجغرافية والعدوانية القَبَلية، إلى مستوى المشروع العالمي الرُّوحي والعقلي والخُلُقي والمادي، والذي يقدم حضارة منفتحة لائقة بإنسانية الإنسان، واستخلاف الله للإنسان؛ من أجل تحقيق العمران، وليس في فكر ابن خلدون أي تناقض، بل هو تدرُّج فكري يتناغم مع الظروف والأوضاع، فإذا تركنا موقف الإسلام من العصبية، ومن المنهج الخلدوني على النحو الذي بسطناه، وانتقلنا إلى الإشكالية الثانية، وهي موقف ابن خلدون - أو الفكر الخلدوني من خلال نظرية العصبية - من العنصر العربي؛ وجدنا أنفسنا أمام موقف حادٍّ ثار حوله لغطٌ كبير، واختلفت فيه الآراء اختلافًا جذريًّا، إن القوميين العرب - مثلاً - لن يسمحوا بأن تحتلَّ آراء ابن خلدون في العنصر العربي مكانتها في الوعي الإسلامي والعربي بهذا الشكل الذي قال به ابن خلدون؛ فهم بين خسارتين، كلتاهما فادحة؛ إما خسارة المكانة المتميزة للعنصر العربي بمحض جنسيته العربية بالإسلام أو بدون الإسلام، وإما التضحية بابن خلدون، وهو بالنسبة لهم مفخرة عربية رائعة، لا يجوز التضحية بها، ورَمْيُ صاحبها بالشعوبية ضد العرب، ومن ثم تَرْك آرائه في العرب تتصدر الآراء، فتَحُول دون المد القوميِّ والسيادةِ العربية القائمة على الجدارة الذاتية.

ومن الطريف أن بعض الإسلاميين العرب يلتقون تمامًا مع جموع القوميين في هذه المنطقة.

لقد كتب العلامة ابن خلدون سبعة فصول، تقدِّم عناوينُها أسلوبًا واضحًا، بل يراها بعضهم تشكل منظورًا متطورًا استفزازيًّا أو عدوانيًّا ضد العرب، وفي الفصول السبعة تَرِدُ العناوين على النحو الآتي:
فصل في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط[18].

فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب[19].

فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية؛ من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة[20].

فصل في أن العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك[21].

فصل في أن العرب أبعدُ الناس عن الصنائع[22].

فصل في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب[23] إلا في الأقل.

فصل في أن حَمَلة العلم في الإسلام أكثرهم العجم[24].

وما أظن هذه العناوين غامضةً أو تحمل تأويلاً!

وما أظن العلامة عبدالرحمن بن خلدون - وهو الفقيه المالكي، وعالم الأصول واللغة - عاجزًا عن التعبير عن أفكاره بدلالات لغوية محددة، لا سيما وهو يتكلم في قضية خطيرة تهم شعبًا كاملاً، اختصه الله بالرسالة الخاتمة، وأنزل بلسانه العربي آخرَ الكتب السماوية، وجعله المهيمن عليها، والمقوِّم لما داخَلها من انحراف فكري ولغوي!

ولئن عجز رجل في مستوى ابن خلدون عن تقديم أفكاره بطريقة محددة في قضايا خطيرة على هذا النحو، فإن ذلك يمثل مشكلة أخرى، قد تجرنا إلى منهج سوفسطائي، أو حسب التعبير الذي نفضله: منهج (زئبقي)، يسمح بكل إسقاط وبكل احتمال، ويقود - في الحقيقة - إلى ضياع فكري شامل، وهو أمر يتعارض مع منهج أسلافنا، الذي عُرِفوا بالدقة والتحري في استعمالاتهم اللغوية، وقدروا خطورة المصطلحات؛ نظرًا لِما ينبني عليها من أحكام تشريعية ومفاهيمَ عقيدية.

ومن الجدير بالذكر أن ابن خلدون عندما قدَّم هذه العناوين القاطعة الحاسمة التي ذكرناها، والتي تربط بوضوح كامل بين ازدهار العنصر العربي بالإسلام حين يتمثله فكرًا ومنهجًا، وبين انحطاطه حين يتخلى عنه - لم يكتفِ بتقديم هذه الأحكام المجملة، بل قدم لكل عنوان أو (حكم) أسبابَه وتفسيراته التي تبرره؛ فعندما يصف العرب بأنهم قوم لا يتغلبون إلا على البسطاء، وبأنهم لا يقتحمون معركة أو مجالاً، إلا إذا كان الأمر سهلاً ميسورًا لا يحتاج إلى مكابدة، أو تخطيط أو أساليب دقيقة تحقِّق الغلبة، وعندما يصفهم بهذه الصفة التي تجعلهم أقربَ إلى المنتهزين المغتصبين، يبرِّر ذلك - عن عمد - بطبيعة التوحُّش فيهم؛ وذلك لأنهم أهل انتهاب وعبث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفز، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة، إلا إذا دَفَعوا بذلك عن أنفسهم[25].

وعندما يصف العربَ بأنهم لا يحصل لهم المُلك إلا بصِبغة دينية؛ من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، يعتمد على هذا العنوان الطويل الذي يكاد يحمل حيثياتِهِ معه، في ملاحظة واعية تضبط الحكم ضبطًا علميًّا ودلاليًّا بطريقة كاملة، ومع ذلك فهو لا يكتفي بهذا، بل يقدِّم حيثيات إضافية لحُكمه على العرب: "فطبيعتهم انتهابُ ما في أيدي الناس، وإن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينُهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا تم اقتدارُهم على ذلك بالتغلب والملك بطَلت السياسةُ في حفظ أموال الناس وحرب العمران"[26].

وليس الأمر أمر (طبيعتهم) فقط، بل إنهم في المستويين الاجتماعي والسياسي لا يصلُحون بغير دين، وهم "يتنافسون في الرئاسة، وقلَّ أن يسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل، وعلى كُرْهٍ من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام؛ فيفسد العمران وينتقض"[27].

فابن خلدون يجرِّد العرب من إمكانية أي استقلال عن الدين؛ فجذورهم البدوية لا تسمح بذلك، وطبيعتُهم التي اكتسبوها عبر تاريخهم شكَّلتهم تشكيلاً خاصًّا، فإما أن يقودَهم "وحي" أو فكرة دينية، وإما أن يتآكلوا، أو يكونوا تبعًا لدول كبرى محيطة بهم!

وعندما يصور ابن خلدون العربَ بأنهم أبعد الأمم عن صناعة الملك والدولة تأكيدًا لرأيه السابق، يدعم رأيه ذلك بأن العرب نظرًا لخُلُق التوحُّش الذي فيهم أصعبُ الأمم انقيادًا بعضهم لبعض؛ للغِلظة والأَنَفة وبُعْد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلق الكِبر والمنافسة منهم؛ فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذْهِبِ للغلظة والأَنَفة، والوازع عن التحاسد والتنافس[28].

فالدين هو الذي يوحِّدهم ويجعلهم ينقادون لأمير أو نبي، ويعالج أمراضَهم الأخلاقية العنصرية، ويهذِّب وجدانهم، ويعطيهم الدافع الحضاري لصناعة الملك والامتداد في الأرض.

وعندما يأتيهم الملك، فإنهم - أي: العرب - لا يصلحون أيضًا لقيادته من غير دين، بل سرعان ما يأكل بعضهم بعضًا، ويبيع بعضهم بعضًا للأعداء؛ وذلك لأنهم "أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها؛ لاعتيادهم الشظف وخشونةَ العيش، فاستغنوا عن غيرهم؛ فصعُب انقياد بعضهم لبعض؛ لإيلافهم ذلك وللتوحش"[29].

وتاريخهم - كما يرى ابن خلدون - هو أكبر دليل على ذلك؛ فإن العرب لما ذهب أمرُ الخلافة منهم، انقطع الأمرُ جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم[30].

ولمزيد تأكد ووضوح يقول ابن خلدون أيضًا:
"وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكون مآلُه وغايته إلا تخريبَ ما يستولون عليه من العمران"[31].

فالعرب لا يصلحون للتعامل مع الدولة والملك من غير دين، لا في أول الأمر؛ أي: في مرحلة إنشاء الدولة، ولا في وسط الأمر؛ أي: في مرحلة السيطرة على الدولة، بله التخطيط لاستمراريتها، والحفاظ على ثوابتها أو دعائمها ومقوماتها، بل كثيرًا ما يفرِّط العرب (اللادينيون) في ثوابت دولتهم وأمتهم، ويبيعونها للأعداء، ويتنازلون حتى عن لغتهم وتاريخهم وما بقِيَ من دينهم، وحتى لو حصل لهم نزو طارئ على دولة، فهم يقودونها إلى الخراب بسرعة كبيرة، وذلك كله - كما يرى ابن خلدون - عندما يكونون من غير دين؛ أي: من غير الإسلام!

وبدهي أن يكون هؤلاء الناس أبعدَ الأمم عن الصنائع والعلوم العقلية؛ فذلك نتيجة منطقية لقوم يرفضون أن يحترموا طبيعتهم الفطرية، ويريد لهم بعضهم أن يمشوا في التاريخ من غير الإسلام.

ومع كل هذا الذي يقدمه ابن خلدون من أحكام وتعليلات، فإن المتعصبين للقومية المستقلة المعادية للإسلام - بدلاً من مناقشة القضية في ضوء تاريخ العرب الذي يصوِّرُ طبائعهم قبل الإسلام وبعده، والخروج بنتيجة واقعية تقويمية لهذه الآراء - أراحوا أنفسهم، والتقى بعضُ الإسلاميين معهم فقالوا: إن ابن خلدون يقصد شريحةً معينة من العرب، وهي شريحة الأعراب والبدو!

فأستاذنا الدكتور عبدالواحد وافي - رحمه الله - في بداية عرضه للقضية - وقبل القيام بعملية التحليل - يصدر النتيجة المريحة قائلاً: "والحقيقة أن ابن خلدون لا يقصد من كلمة "العرب" في مثل هذه الفصول الشعب العربي؛ وإنما يستخدم هذه الكلمة بمعنى الأعراب أو سكان البادية الذين يعيشون خارج المدن، ويشتغلون بمهمة الرعي"[32].

ثم يبدأ الدكتور وافي عرض النصوص الواردة في المقدمة، وإرغامها على الوصول إلى النتيجة التي استهل بها دراستَه.

ويلتقي أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة مع أستاذنا الدكتور وافي - رحمه الله - في الباب الثامن من كتابه حول: (الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته)، يعالج أستاذنا الشكعة - أطال الله عمره - موضوع "ابن خلدون والعرب"، وينتهي بعد عرضه لآراء مَن يرون تحامل ابن خلدون على العرب، ومن يرون العكس إلى أن هذه الصفاتِ التي ذكرها ابن خلدون لا تنطبق إلا على الأعراب دون العرب، ويأسف لأن مؤرخنا الكبير يتورط في مثل قوله في العرب: "وانظر إلى ما ملكوه وتغلَّبوا عليه من الأوطان مِن لدن الخليقة، كيف تقوَّض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض؛ فاليمن قرارهم خراب، إلا قليلاً من الأمصار، وعراق العرب كذلك، قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا فيها لثلاثمائة وخمسين من السنين، قد لحق بها وعادت بسائطه خرابًا كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانًا".

فرأي الدكتور الشكعة هو رأي الدكتور عبدالواحد وافي إلى حد كبير، وإن اختلفت الأدلة وأساليب الاستنتاج والتحليل، وقد ناقش المفكرانِ الكبيران كلاًّ من الدكتور طه حسين في رسالته بالفرنسية عن: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، والأستاذ محمد عبدالله عنان مترجم كتاب طه حسين، ومؤلِّف كتاب: "ابن خلدون حياته وتراثه الفكري"، وفي رأيَيْهما اللذين ذهبا فيهما إلى أن ابن خلدون كان يقصد الشعب العربيَّ كله، ونحن نوافقهما في دحض آراء طه حسين، التي حاول من خلالها الاعتمادَ على رأي ابن خلدون لاستعداء العرب ضده، والذهاب إلى ازدرائه، ورفض كل فكره التاريخي خدمةً لأساتذته في باريس، كما أننا لا نوافق الأستاذ "عنان" في أن باعثَ ابن خلدون على التحامل على العرب - إن كان هناك تحامُل - هو ولاؤه للبربر وللدول البربرية التي عاش في كنفها؛ فهذه اجتهادات جانَبَها التوفيقُ إلى حد كبير!

ويتجه إلى هذا المنحى في محاولة تبرئة العرب مما نسبه إليهم ابنُ خلدون - مع التزامه بالرؤية الإسلامية -: الأستاذُ (محمد العبدة) عند تحليله لمصطلح (العرب) في مقدمة ابن خلدون؛ فقد رأى أن هذا المصطلح من أكثر المصطلحات التي ثار حولها الجدلُ عند دارسي المقدمة؛ فقد استعمله ابن خلدون تارة بمعنى البدو، وتارة بشكل عام، أو الجنس العربي، فصبوا جام غضبهم عليه، واتهموه بالشعوبية، وقد تبيَّن لي - أي: للأستاذ محمد العبدة - أنه يستعمل كلمة (العرب) في الغالب للقبائل التي تعيش على رَعْي الإبل؛ فهم لهذا أكثر الأمم بُعدًا عن التحضر؛ لأنهم دائمًا مُوغِلون في الصحراء، ويستعمل ابن خلدون هذا المصطلح أيضًا للقبائل عندما تتحضر، ولكن صبغة البداوة تبقى غالبة عليها؛ فهي تختار المدن المناسبة لطبيعتها الأولى، ولا تهتم بالماء والموقع، وتبقى طريقة البناء والتعامل مع المدينة هي هي؛ فهم يحتقرون المهن والصنائع، ولا يشجعون أصحابها بإعطائهم ما يستحقون، ولا يهتمون بالمشروعات الكبيرة التي تؤسِّس للمستقبل؛ فطابع البداوة لا يزال مؤثِّرًا فيهم، وكذلك يستعملها للذين ينتقلون فجأة من البداوة إلى الحضارة ولا يستطيعون إقامة التوازن المطلوب[33].

ثم ينتهي الباحث في تحليله إلى أن استعمال ابن خلدون لكلمة (العرب) يشوبه شيءٌ من الغموض، وشيء من التشاؤم، ولقد عاش في فترة طويلة مع القبائل العربية والبربرية، ودرس طباعَهم وطريقة تفكيرهم، وشاهد الغارات المتكررة من عرب بني هلال وسليم على الدول التي ما أن تنشأ حتى تزول؛ فكان هذا سببًا لأن يفكر طويلاً في هذه الظاهرة: لماذا يعيش هؤلاء على السلب والنهب؟ وإذا استقروا كيف يتصرفون؟ ومع أن تحليلاته صحيحةٌ في الجملة، إلا أنه في قضية خطيرة مثل هذه كان الواجب أن يوضح مقصده، ويزيل الالتباس بين كلمتي البدو والعرب، ولعل طريقته في التعميم - إذا اقتنع بقضية ما - هي التي أدَّتْ به إلى هذا الغموض[34].

والحقيقة أن تحليل الأستاذ محمد العبدة لمصطلح العرب في استعماله الخلدوني يندرج مع تلك التحليلات التي ترى في الاستعمال الخلدوني لهذا المصطلح غموضًا ولَبْسًا، بيد أن التحليل العام للأستاذ العبدة لا يندرج مع تلك التحليلات التي ترى أن للعرب كيانًا ذاتيًّا مستقلاًّ عن الإسلام، وبالتالي فرؤيته (للعرب) كقوم تقف في خندق التحليلات المنتمية للرؤية الموضوعية الإسلامية.

أما صديقنا الكبير الدكتور عماد الدين خليل - وهو كاتب إسلامي ثقة - فقد رفض رأي ابن خلدون في العرب، ورأى هذا الرأي مجرد رد فعل نفسي وفكري إزاء ما أحدثته بعض قبائلهم في الشمال الإفريقي، مضافًا إلى ذلك رغبة خلدونية درج عليها "من التعميم الذي مارسه في أكثر من مكان، والذي يقود بالضرورة إلى مد المقولات أو النظريات أو القوانين إلى أكبر مدى زماني أو مكاني؛ لكي يعطيها صفة الشمولية؛ ويجعلها أكثر ثقلاً وأهمية في حركة التاريخ على حساب الوقائع التاريخية نفسها.

ومن ثم؛ فإنه إذا كانت بعض القبائل العربية في فترة ما من فترات تاريخها لا تقدر على التغلب إلا على البسائط، عُمِّمت في مقدمة ابن خلدون وأصبحت: (إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط)[35]، وإذا كانت بعض الجماعات العربية لدى تغلبها على بعض الأوطان أسرع إليها الخراب، عُمِّم ذلك في مقدمة ابن خلدون وأصبح: (إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب)"[36]!

والحقيقة أنني أختلف مع الاتجاه القومي الذي يمثله ساطع الحصري وتلامذته في عملية التأويل، ورفض مقولة الأعراب أو البدو على رأي ابن خلدون الواضح جدًّا، كذلك فإنني أختلف - أيضًا - مع آراء أساتذتنا الأفاضل الذين يذهبون هذا المذهب، ومنهم الدكتور عبدالواحد وافي، والدكتور مصطفى الشكعة، وأختلف كذلك مع صديقي الدكتور عماد الدين خليل في تحليله واستنتاجه الذي "عممه" على ابن خلدون في أحكامه، وإذا كنت كذلك لا أوافق طه حسين وعبدالله عنان في تحليلاتهما، إلا أنني أرى أن ابن خلدون لم يكنْ من السذاجة بحيث يسوق هذه الفصولَ الكثيرة الواضحة، وهو يعني شريحة ضئيلة من العرب، وهي شريحة البدو بعد أن كان العمران قد استبحر، ونشأت الحواضر الإسلامية والعربية الكبرى، وظهرت الجامعات والجوامع العظمى، كما أن الأمر لم يكن مجرد إشكالات في الأسلوب أو المصطلحات أدى إلى "هذا اللبس في كلمة (عرب)، فوقعت أخطاء عظيمة في فهم موقف ابن خلدون من العرب، حتى لقد ظُنت به الظنون"، كما يرى الأستاذ الدكتور عبدالرحمن مرحبا[37].

فابن خلدون كان يعي ما يقول، وهو يقصد الشعب العربي بإطلاق، وعندما يريد ابن خلدون أن يستثنيَ، فإنه يعي أيضًا ما يقوله، ويقدم استثناءه واضحًا، فيرى عبر دراسة ذكية شاملة للتاريخ العربي وللإنسان العربي جبلة وتاريخًا اجتماعيًّا وسياسيًّا - أن هذا الإنسانَ لا يصلح بغير نبيٍّ، وأن تاريخه ينقسم قسمين واضحين، لا لَبْسَ فيهما: القسم الذي ارتبط فيه هذا الإنسانُ العربي بالنبوة وبصبغة دينية، وهم في هذا القسم ليسوا مجرد بشر، وصنَّاع الحضارة، وساسة الملك، والقسم الثاني - وهو الأغلب - حين ينفصل العرب عن النبوة وعن الدين وعن الصِّبغة الدينية، إنهم ينحدرون فورًا من مستوى الملائكية والإنسانية العالية، ليس إلى مستوى العقل أو العمل وَفْق المصلحة الدنيوية أو قوانين الاجتماع الإنساني، بل إلى مستوى البداوة والانحطاط؛ حيث يكونون أقرب إلى "الحيوانية"، يقاتل الواحد منهم أخاه، ويخون الواحد منهم وطنَه، وتدور بينهم حروب على ناقةٍ أربعين سنة، ويتباهون بأيامها، وينسَون الأخطار المحدقة بهم من أعداء دينهم ووطنهم، فيتقاتلون على حدود وهمية صنعها لهم أعداؤهم، ويتسمَّوْن بأرفع الأسماء.

ترى هل ينتظر من رجل مثل ابن خلدون أن يتغافل عن قصة العرب في الأندلس، وكيف دارت الحروب الطاحنة في عصر الولاة بعد الفتح بسنوات قليلة لمدة أربعين سنة (93 - 138هـ) صراعًا على الحكم بين القحطانيين والعدنانيين، أو الشاميين والحجازيين، وقد قامت ثورات متعددة في عهد عبدالرحمن الداخل لولا حزمه الشديد؟!

ومنذ منتصف القرن الثالث الهجري قامت حروب أخرى للصراع على الحكم، فيما يعرف بعصر الطوائف الأول، حتى قضى على الفتن عبدُالرحمن الناصر الذي حكم خمسين سنة.

ومع مطلع القرن الخامس الهجري دخلت الأندلس في عصر الفتنة وملوك الطوائف المعروف، الذي استمر نحو ثمانين سنة (399 - 478هـ)، وانتهى بسقوط طليطلة إلى الأبد في يد النصارى، وانقسمت الأندلس فيه إلى اثنتين وعشرين دولة، كان ابن حزم يصف حكامها بقوله: "والله لو علموا في عبادة الصلبان تمشيةً لأمورهم، لعبدوها!"، وكان الشاعر ابن شرف يتحدث عن ألقابهم قائلاً:
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعِها
كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صَوْلةَ الأسدِ

ولم تكد دولة المرابطين البربرية توحِّدهم وتنقذهم، حتى بدؤوا يَضِيقون ذرعًا بها، فاضطرت للاستيلاء على الأندلس، وحتى في عصر غرناطة الأخير حين أصبحت الأندلس (دولة إقليم) غرناطة، ووادي آش، وما حولهما، هل سكنت الفتن بين بني الأحمر القحطانيين؟! إن تاريخ غرناطة معروف، وفيه من الشناعات ما يندى له الجبين، وقد أشرفتُ على رسالة ماجستير لطالب سعودي عنوانها: "الخلافات الأسرية بين بني نصر وأثرها في سقوط غرناطة"[38]، وهي توضِّح أن هذه الخلافات لم تنقطع قط حتى انقسمت (الدولة الإقليم) في آخر الأمر إلى دولتين، ثم انتهى أبو عبدالله يبكي مثل النساء مُلكًا لم يحفظه - كعربي خان دينَه - حِفْظَ الرجال!

فإذا ذهبْنا إلى المغرب الكبير منذ كان الوالي عبدالله بن الحبحاب يفرض الجزية على مَن أسلم من البربر، حتى فرض المظالم الأخرى، التي دفعت مسلمي المغرب إلى اعتناق (المذهب الخارجي) معارضةً للسلطة، وكان أن تأججت النزعة الخارجية، ومعها تأججت النزعة العنصرية عند البربر الذين كانوا مسالمين، والذين كان منهم ثلاثة أرباع الجيش الفاتح للأندلس؛ فانقسم المغرب مع منتصف القرن الثاني الهجري وبدايات العصر العباسي إلى أربع دول: الأغالبة في تونس، وبني رستم في تاهرت، وبني مدرار في سِجِلْماسة، والأدارسة المنشقين على العباسيين في المغرب الأقصى، وجاء الشيعة الفاطميون فاستثمروا هذا كله، ولم ينقذ المغربَ عائدًا به إلى وحدته السنية إلا المرابطون المسلمون الصادقون من قبيلة صنهاجة البربرية، الذين فتح اللهُ على يدي قائدَيْهم العظيمين يوسف بن تاشفين وأبي بكر بن عمر اللمتوني الأندلس وغرب ووسط إفريقيا.

وجاء الموحدون - البربر أيضًا - فقاموا بدورهم، وحتى عندما سقطت دولتهم، بقِي بنو مرين - وهم من البربر - يساعدون الأندلس ضد النصارى، ويطيلون ما استطاعوا عمر غرناطة التي تقاتَلَ فيها العربُ من بني نصر أو بني الأحمر القحطانيين على الحكم.

وهكذا انتهى ابن خلدون إلى مقابلة بين تاريخي المغرب والأندلس، وإلى مفاضلة بين دور البربر ودور العرب، وكيف كان همُّ العرب هو الحكمَ والاستعلاء العنصري، بينما كان همُّ البربر خدمة الإسلام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكانت دول البربر الجامعة المغربية البربرية (المرابطية والموحدية والمرينية) هي الظهير للأندلس، الذي كان مريضًا بسرطانٍ عضال، هو العنصرية القَبَلية، ثم القومية ضد البربر.

وفي يقيني أن نظرة ابن خلدون امتدتْ إلى التاريخ الإسلامي كلِّه حتى عصره، وأنه أبصر انحطاط العرب حين يتخلَّوْن عن الإسلام، وشعورهم بالتفوق لمحض الجنس، وإيمانهم بأحقيتهم في الحُكم حتى لو افتقدوا المؤهلات، وزهدهم في الصنائع والزراعة والعلوم؛ باعتبارها حِرَفًا تليق بعامة الشعب، وبالذين يريدون أن يرفعوا من مكانتهم الاجتماعية.

ولم ينكر ابن خلدون سموَّ العرب وعظمتَهم حين يرتبطون بالإسلام ارتباطَ عقيدة وإخلاص ودعوة، وليس ارتباط مصلحة سياسية أو اجتماعية، وابن خلدون يتحدث عن العرب في هذه المرحلة؛ مرحلة ذوبانهم في الإسلام، وتبدُّل طباعهم بالصِّبغة الدينية، فيقول:
"وإنما يصيرون إليها - أي: إلى سياسة الملك - بعد انقلاب طباعهم وتبدُّلِها بصِبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحمِلهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض - كما ذكرناه - واعتبِرْ ذلك بدولتهم في الملة، لما شيَّد لهم الدينُ أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا، وتتابَع فيها الخلفاء - عَظُم حينئذٍ ملكُهم، وقوِيَ سلطانهم، كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: أكل عُمَرُ كبدي، يعلِّم الكلابَ الآدابَ، ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قَفْرهم"[39].

"بَعُدَ عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين، فرجعوا إلى أصلهم من البداوة، وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غَلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكونُ مآلُه وغايته إلا تخريبَ ما يستولون عليه من العمران كما قدمنا، ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 247]"[40].

وهكذا كان ابن خلدون واضحًا كل الوضوح في ربطه العرب والعروبة بالإسلام صعودًا وهبوطًا؛ فهم بالصِّبغة الإسلامية أفضلُ الناس، وهم بدون الإسلام أحطُّ الناس وأذلُّهم، وأقلُّهم عقلاً وخُلقًا ورشدًا.

بل إن ابن خلدون كان واضحًا تمامًا في تفضيله البربر عليهم حين يكون الأخيرون على الصبغة الإسلامية (كالمرابطين والموحدين)، فيما يكون العرب مشغولين بذاتهم القَبَلية في صراعات على النفوذ في الحكم، ونزعات الاستعلاء المتأصلة في كثير منهم، ولم توجد أدنى شبهة في التراث الخلدوني تدل على انحياز خلدوني للعرب خارج نطاق صبغتهم الإسلامية، بل إنه كان أصرح المفكرين وأقواهم في سلب العرب الخارجين على سلطان الدين، ومع ذلك الوضوح وهذه الصراحة القوية التي تركت بصماتها في الفكر الحضاري الإسلامي، لم تعدم بعض المفكرين القوميين الذي راحوا يلفون ويدورون في سبيل إسقاط النزعة القومية العروبية غير الإسلامية على الفكر الخلدوني تمامًا، وحذو النعل بالنعل مثل تلك الحركات المادية والليبرالية التي سلكت الطريق نفسه.

وكنموذج لهؤلاء نقتبس ما يقوله الأستاذ "رضوان إبراهيم" في مقدمة كتابه: "المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون" يقول: "وحسنة أخرى لابن خلدون هي تجميعه للعرب والعروبة بمفهومها الواسع على الصعيد الفكري النقدي، ومزاولة القومية مزاولة عملية؛ فقد مثَّل بنفسه دور "المواطن العربي" حينما جاب هذا الوطن من غربه إلى شرقه، وشغل نفسه بقضايا العرب أينما حل، وتكلم باسمهم في كل محفل، وسَفَرَ عنهم، وفاوض في شؤونهم، وقضى بينهم، واستهدف إصلاحَ جماعاتهم بما أوتي من قوة الشخصية، وحصافة الفكر، وجاه المنصب"[41].

وفي موضع آخر يتابع الكاتب إسقاطاته القومية فيقول: "كان - ابن خلدون - داعية للوحدة العربية في هذا الوقت الباكر من حياة العروبة، وقد أثبت بمجموعة أعماله إلى أي حد يمكن أن تكون الثقافة العربية وشيجة قوية بين أبناء العروبة جميعًا؛ ففي هذه الفترة التي عاشها ابن خلدون استطاع على رغم التفكك السياسي والاجتماعي أن يمنحنا الثقةَ في إمكان قيام وحدة عربية سليمة البنيان، أساسها: الفكر واللغة والأدب والجهود الثقافية النافعة المخلصة (أي: لا دين لها).

وقد أثبت - أي: ابن خلدون - في هذه الظروف العصيبة أن وحدة اللغة العربية، وما تحمل من نبضات فكرية وعاطفية وثقافية، تصلح أن تكونَ جسر الأمان الذي يعبره العرب إلى وحدتهم المتكاملة إذا تحررت الإرادة وتواءمت الخُطى.

لقد كانت العروبة هي الشعاع المضيء (!) عبر كل ما كتب ابن خلدون؛ فمن أجل العرب وقف جهوده على تسجيل تاريخهم، ورواية أمجادهم القديمة (!)؛ ليشحذ عزائم الأجيال الراهنة والمقبلة، وليدل على المعدن الأصيل الذي أنجب هذه الأمةَ، وليصور كيف كان العرب هم السوادَ من عين الخليقة، وكل الأمم من حولهم حواشٍ وأهداب[42]..".

وهذا الكلام الذي يلقيه الكاتب على عواهنه - على كل حال - يتناغم مع الأسلوب الإسقاطي غير العلمي الذي كان سائدًا في عصر المد الاشتراكي القومي في أنحاء من العالم، لكنه لا يصمد أمام البحث الموضوعي العلمي، بل على العكس لم يوجد عالِم عربي أو مسلم اتُّهم بسبه العنيف للعرب القوميين غير الإسلاميين مثل العلامة ابن خلدون، أليس هو الذي كتب فصولاً كاملة ذات عناوين حادة على النحو الذي ذكرناه[43]، اعتُبرت أكبر اللطمات الشائعة للعنصرية العربية؟ فقد وصم فيها العرب بأنهم (لا يتغلبون إلا على البسائط)، وأنهم (إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليه الخراب)، وأنهم (أبعد الأمم عن سياسة الملك)، وأنهم (أبعد الناس عن الصنائع)، وأن (حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم)، وأن العرب (لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيةأفلا تكفي هذه النعوت الثابتة لإقناع أصحاب العقول برأي ابن خلدون في أن العرب لا يصلحون لشيء إيجابي من غير الإسلام؟ وهم من غير الإسلام أعجز عن أن يبنوا دُولاً ذات سيادة حقيقية، أو أن يصنعوا قوة حضارية مؤثرة في التاريخ؟!

أفلا تكفي هذه النعوت الواضحة جدًّا؛ لكي نضع العرب في خندقهم الصحيح، وهو الإسلام، الذي يشبه البحر بالنسبة للسمك، فلا حياة حقيقية للعرب بدونه إلا ريثما يفترسهم المفترسون، ويأكلهم الآكلون؟!

وأمَا آن لنا أن نكف عن تأويل آراء ابن خلدون الواضحة جدًّا؛ لكي نفرض عليها أن تتساوق مع نزعات بعض القوميين والعشائريين الذين يريدون إخراج العرب من بحرهم المحيط، لكي يجردوهم من وقود المشي في طريق الحضارة الصحيحة الكاملة، ولكي يدفعوهم إلى مؤخرة الناس بعد أن كانوا بالإسلام شامة الدنيا، ونموذج الإنسان الصحيح الذي يعيش لنفسه ولغيره، ويقدم حضارة إنسانية ربانية، تقيم الحق والعدل بين القوي والضعيف، والغني والفقير، والعربي والعجمي، ولا فرق بين أمريكي من رعاة البقر وعربي من أشاوس قريش إلا بالعمل الصالح والتقوى؟!

ومرة أخرى نؤكد أن النصوص الواردة حول العرب في مقدمة ابن خلدون لا تحتمل تأويلاً؛ فهم بالإسلام ساسةُ الدنيا، وأصحاب الملك العظيم، والسلطان القوي، حتى ليعترف رستم بأنهم أكلوا كبده من الغيظ؛ لتبدُّلهم العجيب حين يلتزمون بالآداب في الصلاة، مع أنهم في رأي رستم كانوا قبل الإسلام كلابًا، أما حين يفقد العرب الإسلام، فإنهم يفقدون عقولهم وضمائرهم وأخلاقهم، ويعودون إلى أصلهم من البداوة والقفار، ولنلاحظ بدقة كلمة: (أصلهم) التي يستعملها ابن خلدون، فكأن للعرب عنده (جِبِلَّة خاصة) - وهو محقٌّ في رأيه - فقد أثبت التاريخ فعلاً قبل ابن خلدون وبعده حتى يومنا هذا، الذي ما زالت الحوادث المعاصرة تلقي فيه بظلالها الكئيبة - أن للعرب (جبلة خاصة) من بين سائر البشر، ولعله لهذا السبب اختارهم اللهُ طليعة الرسالة العالمية الباقية إلى يوم القيامة؛ ليعرف الناسُ من خلال نموذجهم الفطري البدائي أثر الوحي في الحياة، ويتجلى أمام أعينهم الفرقُ العملي الحي الهائل بين الارتفاع مع الوحي والانخفاض بدونه!

فالعرب حين يصبغون بالصبغة الإسلامية يقدمون النماذج الإنسانية قلبًا وعقلاً وضميرًا وأخلاقًا، وحين يفقدون هذه الصبغة يفقدون - وبطريقة مباشرة - مؤهلاتهم للحياة، فينحدرون إلى مستوى عميق في التشرذم والتخريب لغيرهم إن استطاعوا، ولأنفسهم بالدرجة الأولى، ويَفقدون - بطريقة فذة فريدة (!) - الرؤية الصحيحة للأشياء ولأبجديات البقاء، وربما يتلهون بتدمير أنفسهم، وقبول مخططات أعدائهم بسذاجة نادرة تعكس شللاً عقليًّا مريعًا، ويتشرذمون تشرذمًا لا حدود له، بحيث يعجب الناظر للبون الشاسع بين حال هؤلاء القوم؛ حالهم حين يصبغهم الدين، وحالهم حين يفقدون هذه الصبغة!

ولقد أثبت التاريخ أن بعض الأمم قد تلجأ إلى عقلها وفكرها، فتبعث فيها كل إضاءة ممكنة، وتغذيها بكل الوقود الممكن، معتمدة عليها في إطالة عمرها، وتحقيق رخائها، والمكر لنفسها في معركة الحضارات وَفْق قواعد البقاء، وأصول التقدم والنهضة، لكن هؤلاء العرب حين يفقدون وقود الدين، يفقدون كل دم في عروقهم، وكل سيادة في أجسامهم، وكل بصرٍ في أعينهم، وكل بصيرة في قلوبهم، ويتقدمون في بسالة قومية نادرة لانتحارٍ جماعي، يُؤثِر المصلحة الخاصة على العامة، والمنفعةَ العاجلة على الآجلة، واليوم على الغد، وقد يدمر بعضُهم ثروةً تكفي قرونًا في عقود قليلة، ويفيد عدوَّه من ثروته أكثرَ مما يفيد نفسَه، ويخضع لتخطيطات عدوِّه وكأنه صديقُه، بل قد يستشيره في التخطيط لسياسة بني وطنه وقومه، رافضًا استشارة إخوانه وأرحامه وذويه!!

هؤلاء هم العرب حين يعودون إلى أصلهم القَبَلي، المصاحب لهم في كل مرحلة في التاريخ انفصلوا فيها عن صبغة الله، هكذا اكتشفهم ابن خلدون بأكبرِ عمقٍ ممكن لمؤرخ فيلسوف وسياسي فقيه استلهم التراث والحضارة الإسلاميين.

وأما عندما يَقبَلون صبغة الإسلام، فإنهم يصبحون - كما كانوا بحق، وكما يمكن أن يكونوا في مستقبل الأيام بإذن الله - ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].

ها هم العرب كما اكتشفهم ابن خلدون على حقيقتهم دون تأويل أو إسقاط أو تحريف، وسوف يبقون كذلك - شاؤوا أم أبوا - إلى غروب الحضارات ونهاية التاريخ!

ورحم الله العلامة عبدالرحمن بن خلدون، ذلك العربي المسلم العملاق، الذي استطاع أن يفهم العرب أصدق فهمٍ، واستطاع - في الوقت نفسه - أن يترجم الرؤية الإسلامية في نظرياته وأفكاره ترجمة إسلامية صادقة!


[1] مفهوم التاريخ "جزآن" نشر المركز الثقافي العربي، المغرب، 1992م.
[2] الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون، نشر المركز الثقافي العربي، المغرب، طـ3، 1985م.
[3] دراسات عن مقدمة ابن خلدون، نشر بيروت.
[4] في علمية الفكر الخلدوني، نشر بيروت.
[5] الخلدونية - العلوم الاجتماعية وأساس الفلسفة السياسية، نشر عويدات، بيروت، طـ1، 1983م.
[6] كتبت بالفرنسية، وترجمت للعربية بواسطة محمد عبدالله عنان، نشر دار الكتاب اللبناني، بيروت القاهرة، ضمن الأعمال الكاملة، وقد فند آراءه الساذجة كثيرون، منهم الدكتور: علي عبدالواحد وافي، والدكتور مصطفى الشكعة، وغيرهما.
[7] العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ص 13، طـ3، 1982م، دار الطليعة، بيروت.
[8] الجابري، المرجع السابق، 13.
[9] مقدمة ابن خلدون، ص 151، طبع دار العلم، بيروت.
[10] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، ص 287.
[11] انظر: المقدمة، ص 157.
[12] د. مصطفى الشكعة، الأسس الإسلامية، ص 144، وما بعدها، طبعة 2، 1408هـ، الدار المصرية اللبنانية.
[13] الجابري، مرجع سابق، 290.
[14] الجابري، ص 288، 289.
[15] المقدمة، ص 160.
[16] الأسس الإسلامية، ص 148.
[17] المقدمة، 157.
[18] المقدمة، ص 149، طـ دار القلم بيروت.
[19] المقدمة، ص 149.
[20] المقدمة، ص 151.
[21] المقدمة، ص 151.
[22] المقدمة، ص 404.
[23] المقدمة، ص 359.
[24] المقدمة، ص 543.
[25] المقدمة، ص 149.
[26] المقدمة، ص 151.
[27] المقدمة، ص 151.
[28] الصفحة نفسها.
[29] المكان السابق.
[30] المكان السابق.
[31] المكان السابق.
[32] عبقريات ابن خلدون، ص 239، طـ عالم الكتب، القاهرة.
[33] محمد العبدة: البداوة والحضارة، نصوص من مقدمة ابن خلدون، ص 33، 42، المنتدى الإسلامي، لندن، طـ1، 1413هـ.
[34] المرجع السابق، ص 35، 36، وقضية التعميم هذه يقول بها أيضًا الدكتور عماد الدين خليل.
[35] د. عماد الدين خليل، ابن خلدون إسلاميًّا، ص 106، 107، المكتب الإسلامي، بيروت.
[36] المكان السابق.
[37] الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، ص 493، طـ2، 1988، عويدات، بيروت.
[38] للباحث عبده محمد عواجي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض كلية العلوم الاجتماعية.
[39] المقدمة، ص 152.
[40] المكان السابق.
[41] رضوان إبراهيم: المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون، ص 12، طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي، بمصر، طـ1 / 1960م.
[42] المرجع السابق، ص 20، 21.
[43] انظر مقدمة ابن خلدون، صفحات 146، 151، 404، 543، وغيرها.