Friday, August 2, 2013

الفتوحات بين رد العدوان ونشر الدعوة

بداية يجب التذكير بأن الحوادث التاريخية تُفَسَّر طبقًا للقواعد والأعراف التي كانت سائدة في وقتها، ولا تقيَّم على مقاييس اليوم، وحروب الصحابة في الصدر الأول كانت لأجل حماية الدعوة ومنع تغلب الظالمين عليها لا لأجل العدوان؛ فـ الرسول صلى الله عليه وسلم بدأ الاتصال بالعالم الخارجي من خلال رسائله السلمية إلى ملوك الأرض فتباينت ردود الأفعال نحو الدعوة الوليدة وجاءت على النحو التالي:
- فالروم كانوا يعتدون على حدود البلاد العربية التي دخلت في حوزة الإسلام، ويؤذون - وأولياؤهم من العرب المتنصرة - من يظفرون به من المسلمين. - «ثم كانت غزوة مؤتة (8هـ)، التي كانت بدايتها أن الحارث بن عمير الأزدي لما نزل مؤتة بكتاب رسول الله إلى صاحب بصرى، أخذه شرحبيل بن عمرو الغساني وضرب عنقه، فكان الرسول الوحيد الذي قتل من رسل رسول الله إلى الأمراء والملوك. وقتل الرسول في جميع النظم والشرائع إيذان بالمحاربة. فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم وندب الناس.
ثم كانت غزوة تبوك في غرة رجب (9هـ) وسببها أن الروم قد جمعت جموعًا كثيرة بـ الشام تريد توجيه ضربة إلى الدولة الإسلامية، قبل أن يشتد ساعدها وتنفرد بقيادة الجزيرة العربية، وتشكل - وهذا هو الأهم - خطرًا حاسمًا على الوجود البيزنطي في بلاد الشام. وتناهى إلى علم المسلمين أن القبائل بدأت بإرسال طلائعها إلى البلقاء تمهيدًا للخطوة التالية وأجلبت معهم لخم وجذام وغسان. وكان أحد زعماء الردة، هو النعمان الغرور نصرانيًا قبل دخوله الإسلام، وكان وجماعته على علاقة بالروم. وينقل عن السيدة عائشة رضي الله عنها إشارتها في حرب الردة... "واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية".
- أما الفرس فكانوا أشد إيذاءً للمؤمنين من الروم، فقد مزقوا كتاب النبي ورفضوا دعوته وهددوا رسوله، ثم كتب كسرى إلى باذان وهو والي اليمن: "ابعث إلى هذا الرجل الذي بالحجاز رجلين من عندك جلدين فليأتياني به. فبعث باذان قهرمانه - وهو بابويه - بكتاب فارس وبعث معه رجلًا من الفرس. فخرجا حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه بابويه فقال: "إن شاهنشاه ملك الملوك كسرى قد كتب إلى باذان يأمره أن يبعث إليك من يأتيه بك، وقد بعثني إليك لتنطلق معي، فإن فعلت كتب فيك إلى ملك الملوك ينفعك ويكفه عنك، وإن أبيت فهو من قد علمت، فهو مهلكك ومهلك قومك ومخرب بلادك".
فهل بعد كل هذا يمكن أن يقال: إن جيوش المسلمين هي التي بدأت بالتحرك نحو الفرس والروم وليس العكس؟ ثم إن الدولة صارت في حالة حرب مع الدولتين، وهما من بدأها فلا يعيننا أن نكون البادئين بالهجوم في بعض مراحل هذه الفتوحات، فحالة الحرب قائمة وتأمين الدولة واجب. ومع ذلك ورغم تحرك جيوش المسلمين لرد العدوان كما أسلفنا فإن عمر رضي الله عنه كان "يتمنى أن يكون بينه وبين الفرس جبل من نار يحجز بين الفريقين". وكان كلما عزم على الوقوف عند حد للفتوح اضطرته مؤامرات العدو أن يستأنف القتال.
والسؤال: لماذا إذن ذاعت مقولة "إن الإسلام قد انتشر بالسيف"، على الرغم من أنه ليس لها واقع حقيقي؟
في الغرب كلما سمعوا كلمة "الجهاد" تمثلت أمام أعينهم، جنود متقدة صدورها بنار التعصب والغضب، متطاير من عيونها شرار الفتك، عالية أصواتها بهتاف "الله أكبر" زاحفة إلى الأمام، ما إن ترى كافرًا حتى تمسك بخناقه وتجعله بين أمرين: إما أن يقول: لا إله إلا الله، فينجو بنفسه، وإما أن يضرب عنقه.
وفي ظني أن ذلك راجع إلى سببين: الأول: تلك السرعة الفائقة التي انتشر بها الإسلام، على حين كانت المسيحية طوال قرون تخفي نفسها في الزوايا والمنعطفات. أما الإسلام فخلال فترة لا تتعدى ثلاثين سنة بعد موت معلمه الأكبر، شق لنفسه طريقًا راسخًا، بأن نفذ إلى قلوب أعداد هائلة من البشر. وقبل أن ينقضي قرن واحد كان صدى وحي غار "حراء" يزحف بعيدًا بعيدًا عبر قارات ثلاث، فلم يستطع الغربيون أن يتصوروا إمكان حدوث تلك "المعجزة" إلا بحد السيف، والسيف وحده.
والثاني: أن بعض المؤرخين المسلمين كانت تأخذهم حماسة النصر فيصورونه تصويرًا يتفق مع طبيعتهم الشخصية والتي تكون في بعض الأحيان طبيعة بدوية جافة، والأسوأ أنهم يزايدون في صورة الانتصار ويغلفونه بما يحسبونه - طبقًا لفهمهم - تمجيدًا لانتصار المسلمين على أعدائهم. وللأسف فإن المؤرخين في الماضي كانوا يبالغون في هذه الأرقام بغير حق، وما كانوا يدرون أنه بعد قرون سيأتي أقوام يتصيدون هذه الأخبار الكاذبة والمبالغ فيها حتى يسيئوا للإسلام، بعض مؤرخينا إذن أمدوهم بمادة خصبة لنفث سمومهم.
ولكن ألا تتفق هذه المقولة بانتشار الإسلام بالسيف مع الحديث الصحيح: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فإن قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم"؟ ألا يعطي هذا الحديث دستورًا لتعامل المسلمين مع العالم الخارجي غير المسلم؟ إذا فهم هذا الحديث على أنه دعوة إلى قتال كل أهل الأرض حتى ينطقوا بالشهادتين، فإن ذلك يعد افتئاتًا على الإسلام، فضلًا عن أن ذلك المعنى يهدم كل الدعائم التي أقامها القرآن ليؤسس جسور المعاملة بالحسنى مع غير المسلمين، تلك الجسور التي يشهد بها الواقع التاريخي الذي يشهد به العدو والصديق.
وحقيقة الأمر أن المعنيّ بـ "الناس" في هذا الحديث الصحيح ليس كل البشر، وإنما هم جماعة من البشر، وهو المعنى المستخدم في بعض آيات القرآن، مثل قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173]، فالمراد بالناس في الآية ليس بالطبع كل البشر، وإنما جماعة صغيرة من الأعراب أوعز إليهم أبو سفيان ومن معه ممن قاتلوا في غزوة أحد أن يوهنوا من عزم المسلمين في تعقبهم بعد الغزوة. وثمة اتفاق بين جميع المسلمين على أن المراد بـ"الناس" في الحديث هم مشركو جزيرة العرب بوجه خاص؛ لأن حكم غيرهم من أهل الكتاب ومشركي غير العرب يخالف ما جاء في الحديث، ذلك أنهم يقاتلون عندما يتوافر السبب الشرعي لذلك حتى يسلموا أو يدفعوا الجزية. فإن لم يتوافر السبب الشرعي، فإن قتالهم لا يجوز؛ بدليل وجود بعض المشركين كأفراد وكتجار في الجزيرة في عهد الخلفاء ولم يتعرض لهم أحد، وأبولؤلؤة المجوسي أحد هؤلاء، وبالتالي فالتطبيق العملي من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الحديث خير رد على من يريد جعل هذا الحديث سيفًا على كل العالم.
وهنا يثور سؤال: أليس من الواجب الشرعي أن أنقذ غيري من الكفر ولو بالقوة؟ هذا ليس صحيحًا، فقد استقر المبدأ الشرعي العظيم {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} كواحد من أسس التفكير الإسلامي، حتى ألقى بظله على الكثير من الاجتهادات الفقهية في مختلف نواحي السلوك الإنساني. ينقل الطبري رواية عن ابن عباس تقول: إن رجلًا من بني سالم بن عوف يقال له الحصين كان له ولدان مسيحيان وهو مسلم، فسأل الرسولَ أن يحمل ولديه على اعتناق الإسلام بعد أن أصرا على التمسك بالمسيحية، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، ونزل قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}[البقرة:256].
وقد بلغ حرص المسلمين الأوائل على الالتزام بهذه القاعدة {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}، أن جاءت امرأة مشركة إلى الخليفة عمر بن الخطاب، في حاجة لها، فدعاها أمير المؤمنين إلى الإسلام، لكنها رفضت، فقضى لها حاجتها، ولكنه خشي أن يكون في مسلكه هذا ما ينطوي على استغلال حاجتها لمحاولة إكراهها على الإسلام، فاستغفر الله مما فعل، وقال: "اللهم إني أرشدت ولم أُكره".
ومن القضايا الطريفة - والمهمة - في هذا الصدد، ذلك الجدل الفقهي الذي أثير حول حق الزوج المسلم في مناقشة زوجته غير المسلمة، في مسألة إسلامها, فقد رأى الإمام الشافعي ألا يفاتح الرجل زوجته في هذا الأمر، ولا يعرض عليها الإسلام، "لأن فيه تعرضًا لهم، وقد ضمنا بعقد الذمة ألا نتعرض لهم". بينما يرد الأحناف بقولهم: "يعرض الإسلام على الزوجة، لمصلحة من غير إكراه"!

No comments:

Post a Comment