Friday, August 9, 2013

قصة رائعة : تقرير المصير

باولو كويلو - قال الأمير لمعلمه: "أعتزم التخلي عن كل شيء. أرجو أن تقبلني كتابع لك."

فسأله المعلم: "كيف يقرر الإنسان مصيره؟"

أجابه الأمير قائلاً: "من خلال التضحية. فالطريق الذي يتطلب التضحية هو الطريق الصحيح."

اصطدم عندها المعلم ببعض الرفوف وسقطت مزهرية ثمينة، فألقى الأمير بنفسه أرضاً ليلتقطها. سقط الأمير على نحو سيء وكسر ذراعه، لكنه تمكن من إنقاذ المزهرية.

فسأله المعلم: ما هي التضحية الأكبر، أن تشاهد المزهرية تتحطم أو تكسر ذراع إنسان لإنقاذ المزهرية؟"

أجبا الأمير قائلاً: "لا أعلم."

فرد عليه المعلم بالقول: "إذاً كيف لك أن تدل على اختيارك للتضحية؟ يتم اختيار الطريق الصحيح من خلال قدرتنا على حبه وليس المعاناة من أجله." 


الفنان مصطفى بوركون في وقيلة هوا


فين نقرا : شلا ديپلومات فالمغرب


فين نقرا : مول الشكارة


تأملات في الخرافات



 الخرافة هي ما يعتقده الناس أنه صحيح وحقيقة لكنه بالأصل باطل لا أساس له ، وقد نكون نحن إحدى أكثر الأمم تأثراً في هذه الخرافات لأن المنطقة العربية استعمرها الناس من الحضارات الأخرى واحتككنا بحضارات كثيرة أثناء الفتوحات الإسلامية فجمعنا كل تلك الخرافات التي للأسف هي أقوى من الحقائق لأنها مثيرة للغاية.


- من أكثر الخرافات غرابة من ناحية الإيمان بها ما يسمى بطاسة أو كاس الرعبة ، فنحن نقوم بعملها وصناعتها ومن ثم نشرب بها عند خوف إنسان ، السر الحقيقي لفائدة هذه الخرافة هو اطمئنان الإنسان إلى أنها ستجعله ينسى الخوف فيقنع نفسه بذلك ، أي ببساطة المسألة اقتناع بخاطىء يؤدي إلى نتيجة صحيحة.

- في مسلسل كوميدي طريف، يؤمن أحد الفتيان بأن قطعته النقدية الحمراء هي جالبة الحظ له، وعندما تضيع منه يمر بمعاناة كبيرة ويحاول كل أهله إقناعه بأن لا وجود لمفهوم الحظ لكنه يبقى مكتئباً حتى يقوموا بتزوير قطعة نقدية له ويقولون له هذه قطعتك الضائعة فتعود النتائج الإيجابية لحياته والسبب الثقة طبعاً، وعندما يعرف أن القطعة مزورة لا يعترف بخرافاته بل يقول "هذه قطعة جالبة للحظ أكثر من القديمة".... ببساطة هناك عقول ترتاح للعيش مع الخرافات!

- أسوأ ما في الخرافات أنها توقف عقل الإنسان عن التفكير وتجعله غير قابل للإقناع ولو بأدلة من كل جهات العالم ، فكثيرون عندما تم إقناعهم بأن المعلومة التي يمتلكونها خاطئة يقولون يبدو أنها مسألة فيها وجهة نظر وهذه أكبر درجة تنازل ممكن الحصول عليها.

- تصبح الخرافة أقوى لو تم دمجها بالدين أو التاريخ، فكثيرون لا يستطيعوا الاقتناع حتى الآن أن نيل أرمسترونغ لم يسلم، وكثيرون لا يستوعبون أن مايكل جاكسون أصبح أبيض بسبب دواء لمرض البهاق وليس بسبب عملية تجميل، عند ربط الخرافة بشخص معروف ومع بهارات الإثارة يصبح من الصعب منع الناس من نشرها .. لأنها مسلية فقط.

- الرأي العام لو كان جاهلاً يرفض النقاش العلمي تصبح الخرافة قادرة على تحريكه بشكل سهل جداً، ومجتمع تسود فيه الخرافة يستحال أن يكون منتجاً قادراً على حكم نفسه وقيادة أمره ، فحتى الصين عندما كانت تؤمن بالخرافات احتلها اليابانيون بـ 23 الف جندي فقط والآن نتحدث عن قوة ضاربة.

- يحكم الديكتاتور شعبه بالنار وبالخرافة ، فالشعب الذي ينجح حاكمه بنشر الخرافات في عقله يصبح سهل الحكم، فيكون المهدي مرتبطاً بقصة انقلاب في الوطن ويظهر أخر في القمر وثالث يصبح على علاقة مباشرة بالنبي الخضر....لا أنكر المهدي ولا أنكر القمر ولا أنكر الخضر لكنني أنكر القصص المؤلفة بحقهم لصالح جهات تعيش بيننا.

-  الخرافات أنواع ؛ صحية تقتل الجسد وعلمية تقتل العقل ودينية تقتل القلب والمنطق واجتماعية تجعلنا سذجاً.

- كل الخرافات يمكن النجاة منها إلا خرافة الإنسان مع نفسه ، كأن يقنع نفسه بالنجاح وهو فاشل أو بالطيبة وهو شرير أو بالمرض وهو سليم ... وهنا تصبح الخرافة جزءاً من كيان وليست دخيلة عليه ولا يعافى منها الإنسان عادة إلا بعد فوات الآوان.

- نستخدم مصطلح خرافة ولا نعرف مصدره، والقصة التي بدأ منها هذا الاسم تعود إلى شخص بالغ بقصته واسمه خرافة، فخراافة رجل زعم ان الجن استهوته مدة...ثم لما رجع الى قومه أخبرهم بما رأى فكذبوه حتى صاروا يقولون لما لا يمكن وقوعه "حديث خرافة".

- ما يحمينا من الخرافات هو تحليل الأمور قبل الاقتناع بها، لأننا ما إن اقتنعنا بها لن يعود منطقياً تفكيرنا به ولو فند لنا كل البشر هذه الخرافة فسوف تبقى أطرافها عالقة في عقولنا ... لذلك الفلترة قبل الشرب!

نصائح كي تتعامل مع عاداتك السلبية


محمد عواد - لا يوجد إنسان خالٍ من الصفات السلبية، ولكن هناك إنسان يستطيع التعامل مع هذه الصفات ولذلك نقدم هذه النصائح:

- لا يمكن لشخص التخلص نهائياً من رواسب عادة سلبية فيه، لذلك ركز على إخفائها وجعلها مضبوطة فيك قدر الإمكان ولا تيأس لو عادت للواجهة.

- اقرأ، ففي القراءة أفكار تساعدك وترفع من عزيمتك على قهر هذه العادات.

- اخلق عادات إيجابية جديدة ولا تركز كثيراً على التخلص من السلبية، فالعادات تمثل وعاءً يتم تعبئته، فلو زدت عاداتك الإيجابية ستقل بشكل آلي عاداتك السلبية.

- احرص على منح نفسك 10 دقائق على الأقل في الأسبوع، تجلس فيها لوحدك بعيداً عن الموبايل والانترنت وكل وسائل الإزعاج والاتصال، فقط كن مع نفسك وتحدث إليها لتحدد عاداتك السلبية.

- قبل النوم حاول عمل مراجعة سريعة لأخطاء اليوم ولو في عشرين ثانية، لا تلم نفسك فيكفي أن تحدد أخطاءك لبدء معالجتها.

- ابتعد عمن يشبهونك في هذه الصفات إن كان ذلك ممكنا، فلو كنت ممن يغضبون بسرعة حاول الابتعاد عمن يشبهونك والاقتراب ممن يملكون ميزة الهدوء، مع الزمن ستتحسن وهذه نصيحة مجربة.

- اكسر الروتين، ففي كسر الروتين إعادة توزيع عاداتك وبناء نظام جديد فيها. 

- كلم نفسك سراً وعلانية وقل بحزم "لا تفعلها"، فحسب علم النفس فإن هذا الأسلوب ناجح جداً، فلو كنت ممن لا يسيطرون على أنفسهم بنسج قصص خيالية "كاذبة" فأكملها ولكن قل بين نفسك "لا تكررها"، وعندما تعود لللبيت قل بصوت جهور "لا تكررها".

كل عام وأنتم بخير.. شاركونا بهجة العيد بعدساتكم..

تحية طيبة أعزائي أصدقاء ومتابعي مدونة بلاد ي المغرب..
كل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد الفطر المبارك أعاده الله علينا وعليكم بالخير واليمن والبركات.
اعتدنا في مثل هذه المناسبات أن نضع صوراً نشرتها وكالات الأنباء للعيد ومظاهره من مختلف أنحاء العالم، لكننا هذا العيد سنقوم بشيء جديد هو أن نتشارك جميعاً ما رأته عدساتنا في هذه الأيام المباركة.
إن كنت تحب التصوير انتقي لنا صورة مميزة مما رأته عدستك في هذه الأيام وارسله لنا عبر بريد الموقع:
candelmaroc@gmail.com
مع إرفاقك اسمك ومكان التقط الصورة وكلمة تنقل لنا بها ما شعرته وأنت تلتقطها، وسنقوم بجمع هذه الصور ونشرها في موضوع خاص
ولكم مني ومن مدونة بلادي المغرب خالص الأمنيات بعام مليء بالنجاح لكم ولكل من تحبون..

لكوبل الحلقة L'couple: EP 30


بنات لالة منانة الجزء الثاني : الحلقة 30 (الأخيرة)

Tuesday, August 6, 2013

جار و مجرور: ماجدة بنكيران



جار و مجرور: نفيسة بنشهيدة



لكوبـل : دنيا بوتازوت و حسن الفد الحلقة 28 L'coupl






فن صناعة الأمل

الكثير من الناس يستطيع أن يملأ قلبَك يأسًا وحياتَك قنوطًا، ونفسك تعاسةً، وينتقي لك من الأخبار ما يؤكد وجهة نظره في الشؤم واليأس، بينما القليل جدًا من الناس من يملأ قلبك أملًا ونفسك تفاؤلاً ويؤكد لك وجهة نظره ورؤيته بالكثير من الأحداث والوقائع والتحليل للأوضاع الراهنة، وآليات الانتقال من السيئ إلى الحسن ومن الحسن إلى الأحسن.
الناتج في الحالة الأولى (حالة اليأس) إنسان منهزم نفسيا، متشائم، قانط من أي إصلاح، مدبر عن الحياة، مقبل على هموم ونكد وتعاسة، بينما الناتج في الحالة الثانية (حالة الأمل) إنسان متفائل فرحٌ سعيدٌ مسرورٌ مقبلٌ على الحياة والعمل والإنتاج، لديه أمل لا يغيب في غدٍ أفضل، وحياة أجمل.
إن صناعة الأمل فنٌ لا يتقنه إلا بعض الناس فقط، وهو عملٌ ليس بالسهل اليسير، كما أنه ليس بالصعب العسير، بل يقوم على نظرة تفاؤلية إيجابية للحياة.
تتبنى المعارضة الهدّامة دائمًا عمليةَ اليأس من الإصلاح لتنفير الناس من النظام الحاكم، بينما المعارضة البنّاءة تنتقد النظام القائم لتطوّر منه للأحسن، لا لتهدمه تمامًا وتقوم هي على أنقاضه.
المُصلح الحقيقي مطلوب منه أن يبعث الأمل دائمًا في نفوس الجماهير وأن يبتعد كل البعد عن هواجس اليأس، وبواعث القنوط في أنفس البشر، وهو مُطالبٌ ليس فقط ببعث الأمل في نفوس المؤيدين لتثبيتهم على مواقفهم بل أيضًا في نفوس المعارضين لإثنائهم عن نظرة التشاؤم واليأس التي تطفئ في نفوسهم أي بريق للإصلاح.
وتقوم على عملية نشر اليأس بين الناس أنظمة عالمية تدفع بالمليارات من الأموال لقنواتٍ مأجورة لتبثَّ في الناس الانهزامية والقنوط والنفور عن أي عمل يساعد على الإنتاج والبناء والتقدم، ويساعدها في ذلك الكثير ممن كانوا منتفعين من النظام السابق وممن تقوم حياتهم على السرقات والنهب والرشاوى ولا يستطيعون العيش في مجتمع نظيف خالٍ من الأمراض الأخلاقية قائم على العدل والمساواة بين الناس.
غير أنه في المقابل وبفضل الله تصطدم هذه القنوات وأمثالها من وسائل نشر اليأس بجبال من الأمل مترسّخة في نفوس الجماهير من واقع تجربتها الممتدة مع المنظمة الفاسدة  والتي لم يكن أحدٌ يتوقع أن تسقط رؤوسها بتلك السرعة، وكذلك من واقع إيمانها العميق المتأصل في نفوسها بحتمية وجود فترة انتقالية متأرجحة بين نظام كامل الفساد ونظام يسعى لإصلاح ما أفسده من قبله وبناء حضارة جديدة يهنأ بها البشر في الحاضر والمستقبل.
التفاؤل طريق الإصلاح، والأمل دافعٌ للعمل، والعمل طريق الإنتاج، والإنتاج المُتقَن هو أساس الحضارة والرقيّ والرفاهية.
دُعُونَا نتفاءل بغدٍ أفضل وواقعٍ أجمل وحياة هانئة وليكن هذا دافعًا لنا لمزيد من العمل والإنتاج.

السدود وخزانات المياه في التراث العربي إبداع تقني رائع

د. عماد محمد ذياب الحفيظ


 
تقديم:
إن من أهم الأمور المتميزة في عكس مقدار التطور والرقي في مجال المياه وسبل استغلالها هي بناء السدود وخزانات المياه، فهي تحتاج إلى إمكانات فنية كبيرة تتناسب وحجم المشروع المنفذ، وقد تميزت فيها شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومنذ قديم الزمان، أي لفترة تعود لأكثر من عشرة آلاف سنة وخصوصًا في منطقة تل الصوان وديالي في وسط بلاد الرافدين، إلا أن هذه السدود والخزانات تباينت في حجمها ومقدار استيعابها للمياه وأهميتها على اختلاف مناطقها، لكن شعب بلاد الرافدين بقي الأكثر تميزًا في هذا المجال على جميع شعوب المعمورة في تلك الحقبة الزمنية.
وقد جاء ذكر السدود وخزانات المياه في القرآن الكريم، وتم تحديد اسم أهمها في مأرب (اليمن) وهو سد العرم الذي جاء ذكره في الكتاب العزيز ليعبر عن أحد الإنجازات العظيمة التي أقامها الإنسان على الأرض، وعلى الرغم من ذلك لم يتمكن الإنسان في المحافظة عليه بعد أن نسي ذكر اللّه والتفكر بعظمته•
السدود وخزانات المياه قبل الميلاد:
هناك الكثير من المؤشرات والإشارات إلى إمكانات بناء السدود وخزانات المياه منذ آلاف السنين قبل الميلاد إلا أنّها لم تكن بالحجم والأهمية الكبيرة في تلك الفترة، لذلك نجد أن الحفريات الأثرية تؤكد أنّ السدود وخزانات المياه الكبيرة التي على قدر كبير من الأهمية بدأت مع بداية الألفية الخامسة؛ حيث بدأ الإبداع التقني في بناء السدود وخزانات المياه في هذه الألفية قبل الميلاد، علمًا أن المصادر لم تشر إلى سدود خزانات مياه في أرض المعمورة كما هي عليه في بلاد الرافدين، وخصوصًا في زمن سلالة لجش (لكش) في جنوب بلاد الرافدين فقد أقام الملك "أيا ناتوم" أهم هذه المشاريع، ومن ثم حفر قناة يسيطر عليها سد يقع على خزان بلغ استيعابه من المياه نحو 17 مليون غالون من الماء(1) مستخدما في بنائه مواد رابطة (لملايين عدة من الطابوق المشوي) المقاوم للمياه والرطوبة فتؤمن صلابته ومقاومته لعوادي الزمن، وأن هذه المادة هي "القير" الذي كان يجلب من شمال بلاد الرافدين قرب الموصل حاليًّا، ومن غرب بلاد الرافدين عند مدينة هيت حاليا، وكلتا المنطقتين معروفتان بوجود "القير" فيها منذ آلاف السنين، وقد بلغ مجموع الكميات المستخدمة من القير في بناء السد نحو 259 مترا مكعبًا (2)، ولعل هذه الفترة شهدت بداية تكوُّن الأهوار في جنوب العراق بعد أن أقاموا هناك خزانًا للمياه.
ولأسباب غير معروفة انهار السد الذي كان مقامًا عليه ففقدوا السيطرة على المياه المتدفقة إليه لتتكون بدايات الأهوار هناك وخصوصًا أن هناك الكثير من النقوش السومرية والبابلية توضح عمليات صيد الأسماك في مناطق الأهوار مستخدمين الزوارق المصنوعة من القصب، والقفف المصنوعة من أوراق النخيل وأعواد الصفصاف، ولعلهم كانوا يستعملون "القير" أيضًا في طلاء هذه الوسائل لحمايتها من تسرب المياه إليها، وأن هذه الوسائل ظلت مستخدمة في العراق حتى وقت قريب، فقد شاهدت القفف المصنوعة من أوراق النخيل وعيدان الصفصاف والمطلية" بالقار"في بغداد وما جاورها من المدن والبلدات خلال السبعينيات من القرن العشرين الميلادي•
كما حفر الملك"أنتميتا" من سلالة لجش أيضًا- قناة طولها 140 كيلو مترًا لنقل المياه من نهر دجلة، ثم أقام عليها سدًّا استخدم فيه نحو ثمانية ملايين طابوقة مشوية ونحو 265 مترًا مكعبًا من "القير"(3).
أما في الألفية الرابعة قبل الميلاد أقيم أضخم مشروع إروائي في بلاد الرافدين حتى يومنا الحاضر وهو مشروع النهروان؛ حيث كان يعتقد خطأ أنه يعود لفترة ما قبل الإسلام (4)، لقد كان هذا المشروع يتكون من قناة لنقل المياه طولها عشرات من الكيلو مترات أقيم عليها سد يؤدي إلى خزان ضخم يتسع لعشرات الملايين من الأمتار المكعبة لتخزين المياه وتوزيعها على الأراضي الزراعية التي تنتشر إلى مسافات شاسعة لغرض ري المزروعات خلال أوقات شحة المياه أو في المواسم التي لا تسقط فيها الأمطار•
وفي الألفية الثالثة تم تنفيذ مشاريع إروائية عدة في بلاد الرافدين، أهمها المشروع الذي أقامه ملك بلاد الرافدين البابلي خلال القرن الثالث من الألفية الثانية، ويتكون من قناة حُفرت، وقد تجاوز طولها عشرات من الكيلو مترات بين مدينتي "أريدو" و"أور" سماها عطاء الشعب، وأقام عليها سًّا لتنظيم انسياب المياه وتوزيعها على مجموعة من مئات القرى تتبع عددًا من المدن المهمة التي تتوافر فيها مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية(5).
كما تمكن البابليون من ضبط فيضان نهر الفرات بإقامة السدود عليه مع استخدام منخفض "الحبانية وأبي دبس" لتصريف مياه النهر خلال مواسم الفيضانات، وفي الوقت عينه استخدم هذان المنخفضان كخزانين لمياه النهر خلال مواسم الفيضانات، كما استخدم هذان المنخفضان كخزانين للمياه.
أما على نهر دجلة فقد أقام الآشوريون أضخم سد هو سد "نمرود" الذي أقيم في رأس الدلتا لتموين حوض "الناروان" ويعتقد اسمه النهروان حاليًّا- والواقع في الجانب الأيسر من النهر-، وكذلك لتموين جدولين يعرفان في الوقت الحاضر باسم "الدجيل والإسحاق" في جانبه الأيمن، وهذا يؤكد أن هذا المشروع قد تم إحياؤه على فترات زمنية مختلفة على مر العصور، وبخاصة أيام الحكم العباسي، حيث استخدمت هذه التسميات منذ العصر العباسي، وسنوضح ذلك لاحقًا.
أما الألفية الأولى قبل الميلاد فقد تميزت بانتشار السدود وخزانات المياه الضخمة وتعددها في بلاد الرافدين، وأهمها ما أقامه الملك "سنحاريب" في شمال البلاد؛ حيث حفرت قناة يبلغ طولها نحو 70 كيلو مترًا لتوصل المياه من المناطق الجبلية إلى مدينة "نينوي" ومزارعها، وأقام عليها سدًّا لينظم مياه القناة والسيطرة عليها، وقد استخدم في هذا السد نحو مليوني حجر مكعبة الشكل، طول ضلع الواحدة منها نصف متر، وتزن الواحدة ربع طن (6).
كما قام الملك بحفر قنوات ذات سعات متباينة لجلب مياه العيون والأمطار من الجبال إلى مدينة "أربيل"(7) التي ما زال اسمها يعرف باسم "أربيل" ولعل اسمها كان أيام العهد البابلي والآشوري "أربلا وأربل" وهي مدينة أقيمت على أطلال قلعة بنيت لأغراض عسكرية في بادئ الأمر أيام الحكم البابلي ثم زادوا تحصيناتها ووسعوها أيام الحكم الآشوري أو ربما قبل ذلك، ومن ثم أصبحت مدينة عامرة منذ أيام الحكم العباسي وحتى يومنا هذا إلا أن مساحتها تضاعفت أكثر، ولا بدّ أنّه في عهد "سنحاريب" تم بناء سدود على كل قناة يتناسب وحجم القناة ليؤدي إلى خزان لجمع تلك المياه الواردة من القنوات المختلفة السالفة الذكر.
وخلال فترة حكم "نبوخذ نصر" في وسط بلاد الرافدين أقام مشاريع إروائية عدة، منها السد الذي أقامه على نهر دجلة (عند جانب الكرخ من بغداد حاليًّا، ومازالت بقاياه موجودة في الموقع عينه حتى الآن)، ولعل هذا السد الذي كان قائمًا هناك قبل عهد "نبو خذ نصر" قام على صيانته وترميمه الملك المذكور، وذلك لتحويل جزء من مياه النهر إلى قناة تقع على الجانب الغربي منه؛ حيث المساحات الزراعية الشاسعة،كما شق نهرًا سمي نهر "ملكا" ولعلهم يقصدون نهر الملك، وأقاموا عليه سدًّا له بوابات تتحكم في مرور المياه وتوزيعها، وتؤدي إلى خزان ضخم للمياه قدر محيطه بنحو أربعين فرسخًا أي ما يعادل نحو 200 كيلو متر، وبعمق 35 مترًا(8).
وهنا يجب ألا يغيب عن بالنا ما قام به أهل "سبأ" من منجزات في هذا المجال وبخاصة إنجاز ملكهم "المركب يشع" الذي حفر الكثير من قنوات المياه، وأنشأ السدود التي أقامها عليها، وأهمها "سد مقران" الذي أوصل المياه عبر قناة إلى منطقة "أبين" و"سد" و"يثعان" وغيرها، وأهم هذه السدود سد "مأرب" وهو موجود في وادي "ذنه" الذي تقع مدينة مأرب عند حافته الشمالية؛ حيث يقع بالقرب منها جبل"بلق" الذي يشقه وادي "ذنه" إلى نصفين هما "بلق" الأيمن و"بلق" الأيسر، فأقام "المأربيون" سدًا عظيمًا في مقدم الوادي لحجز مياه السيول الواردة من أعالي الجبال المحيطة بالوادي المؤدي إلى منخفض عظيم، حيث استخدم لتخزين المياه خلال موسم الأمطار(9)، ثم تهدم هذا السد بسبب السيول العظيمة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم باسم سيل"العرم"، ولعل تراكم الطمي في منخفضه مع تصدع السد على مر السنين التي تجاوزت قرونًا عدة، حيث كان الملوك العرب قديما يعملون على صيانته وترميمه وتعليته، ولعل آخرهم ملوك اليمن "شرحبيل يعفر" الذي حكم اليمن خلال القرن الخامس الميلادي أهمل جميع هذه الأمور وغيرها ما أضعف السد، وأدى إلى انهياره.
السدود وخزانات المياه قبل الإسلام (بعد الميلاد):
إن الأثريين أكدوا وجود الكثير من خزانات المياه مثل منخفض"الثرثار والحبانية والرزازة وساوة وبحر النجف"، وقد استخدمت هذه كخزانات للمياه في عهود مختلفة من الزمن، إلا أن المصادر لم تساعدنا في تحديد الفترات الزمنية التي نفذت خلالها هذه الأعمال بدقة، وكذلك نسب بعض"منخفض الثرثار" مثلاً إلى فترة حكم الحضر في بلاد الرافدين(10)، ولكننا لم نتمكن من التأكد من صحة هذه المعلومات لضعف الأدلة التي أشاروا إليها، فإنه من الممكن أن تعود هذه المنجزات إلى فترات زمنية أقدم، ثم أعيد ترميمها وصيانتها خلال فترات زمنية لاحقة، كما ذكرت بعض المصادر أن أهل الحيرة في بلاد الرافدين استغلوا منخفض بحر النجف في إقامة مشاريع إروائية لتخزين المياه، إلا أنّها غير واضحة المعالم والتفاصيل، ولعل أهل الرافدين استخدموا هذا المنخفض لتخزين المياه بغية الاستفادة منها عند شحة المياه، أو لاستخدامها في غير مواسم الأمطار قبل هذه الفترة الزمنية بكثير، أي منذ فترات ربما تعود إلى الفترة البابلية المتأخرة..
ولعل هذه الفترة شهدت تكَّون الأهوار بمساحاتها الشاسعة حاليًّا في جنوب العراق نتيجة الفيضانات المتتالية على مر السنين، بعد أن انهارت الكثير من المشاريع الإروائية والسدود المقامة على خزانات المياه هناك.
مثل هذه الأعمال لم تكن مقتصرة على أهل بلاد الرافدين فقط في تلك الفترات الزمنية، ومن ثم نجد أن عرب الجزيرة قاموا بمشاريع مهمة في التخزين والسيطرة على مياه الينابيع المنبثقة من سطح الأرض والآبار الغنية بالمياه الجوفية وحسن استغلالها داخل صهاريج صخرية وكهوف تحت سطح الأرض، من دون أن تتعرض لتأثيرات أشعة الشمس وحركة الرياح، وفي الوقت عينه لا ندري كيف كانوا يحافظون على هذه المياه من العفونة والتلوث، وهي ما زالت شاخصة للعيان وخصوصًا في منطقة "كندة" ي شمال الجزيرة العربية، وتدمر في بادية سوريا، والبتراء في بادية الأردن، والأغوار والنقب في جنوب فلسطين ومنطقة الحميريين في اليمن(11).
وقد أثبتت الاستكشافات الحديثة في جنوب الجزيرة العربية في حضرموت وأرض عاد (منطقة الربع الخالي) أنهم استخدموا في هذه المناطق الصهاريج الصخرية تحت الأرض أيضا لتخزين المياه، ولعلهم استخدموا الأفلاج لسقاية مدنهم وبلداتهم لري مزروعاتهم أيضًا.
السدود وخزانات المياه في ظل الإسلام:
بعد الفتوحات العربية والإسلامية وحروب التحرير التي طالت كل الجزيرة العربية وشمالها في بلاد فارس وبلاد الرافدين وبلاد الشام وصولاً إلى بلاد النيل، أصبح أمام العرب والمسلمين مهام جديدة لإرجاع البلدان التي حرروها من ويلات الكفر والشرك وإفقار الشعوب، فقد حولوها إلى رقيها الزراعي الذي بلا شك يتطلب إعادة تخطيط وإنشاء المشاريع الإروائية، وبخاصة السدود والخزانات التي يرجع الكثير منها إلى عهود أسلافهم التي أهملوها فآلت إلى الخراب أو أن أسلافهم دمروها في أثناء الحروب التي خاضوها ضد المسلمين، وهذا ما فعلته جيوش كسرى في العراق(12) قبل معركة القادسية وخلالها، وجيوش الروم في بلاد الشام(13) قبل معركة اليرموك وخلالها.
علمًا أن القرآن الكريم أكد في أكثر من سورة على أهمية الزراعة والمياه بالنسبة لخلقه في تأمين غذائهم، فعلى سبيل المثال جاء في سورة ق قوله تعالى {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 7 - 11].
ولذلك ازداد اهتمام العرب والمسلمين في هذه المجالات تحقيقًا لامتداد جيوشهم وشعوبهم والشعوب الأخرى التي دخلت الإسلام لأمنهم المائي والغذائي.
فعلى سبيل المثال ذكر البلاذري في كتابه فتوح البلدان أن مجموع مساحة أراضي السواد التي خضعت للخراج في زمن الخليفة الراشد عمر بن الخطاب خلال الفترة 13-23 هجرية، قد بلغت 36 مليون جريب أي ما يساوي نحو خمسين ألف كيلومتر مربع.
وهذه المساحة تساوي ثلثي مساحة الدلتا ما بين نهري دجلة والفرات الصالحة للزراعة، ونحو ثمن مساحة العراق الإجمالية في الوقت الحاضر، وهذه المساحة وغيرها كانت تتطلب كميات كبيرة جدًّا من المياه السطحية لاستزراعها، أي كان لابد أن يعيدوا المشاريع الإروائية إلى أفضل مما كانت عليه لضمان الغذاء ليس لجيشهم وشعبهم فقط بل للشعوب المحررة أيضًا قدر المستطاع، وعلى الرغم من أن ما فعلوه في تلك المرحلة ليس بالشيء الكبير؛ حيث كانوا مازالوا منشغلين بحروب التحرير والفتوحات الإسلامية حتى ذلك الوقت، إلا أنّهم تمكنوا من مسح سقي الفرات من قبل عثمان بن حنيف أيام الخليفة عمر والمتولي لمساحة سقي دجلة هو حذيفة بن اليمان والقناطر المعروفة بقناطر حذيفة وإليه نسبت(14).
لذلك نجدهم بعد فترة حكم الخلفاء الراشدين كان العرب والمسلمون أكثر اهتمامًا في هذه المجالات؛ مما جعل أعمالهم أكثر وضوحًا ونضجًا، فخلال حكم الدولة الأموية أنشئوا السدود وخزانات المياه في الكوفة، واستخدموا بحر النجف لهذا الغرض لتخفيف وطأة الفيضانات، وسعى عبد الملك بن مروان لإحصاء كميات الأمطار بالإمكانات المتاحة لديهم في ذلك الوقت، فقد بدأ في تلك الفترة بداية الاهتمام بالأنواء عن العرب والمسلمين، كما عمل الحجاج والي العراق على إقامة السدود لتجفيف البطائح (المقصود بها الأهوار) وإعمار شمال مدينة البصرة، وبمساحة نحو مئة ألف دونم(15).
ومن أهم السدود التي أنشأها الأمويون هو سد "خربقة" مع خزان ضخم لتخزين وجمع المياه وتوزيعها، وقد كان هذا السد والخزان يقع على الطريق المؤدية من مدينة دمشق إلى مدينة تدمر، ويبدو أن العرب والمسلمين أعادوا إنشاء هذه المدينة بعد أن أصبحت أطلالاً في القرون الخوالي، والجميل في الأمر أن الأمويين استخدموا الأقنية الخزفية وشبكة ري حجرية في توزيع المياه هناك(16).
إلا أن التطور في مجال إقامة السدود وخزانات المياه وصل إلى مرحلة كبيرة من التطور في العصور العباسية الأولى، وهذا ما جعل الخبير البريطاني "وليم ويلكوكس" يذكر في كتاباته عن تطور الري في العراق أيام الخلفاء العباسيين فذكر أنها تشبه ما أقامه الأميركيون والأستراليون من مشاريع الريفي القرن العشرين الميلادي(17).
لقد عمل العباسيون على التوسع الزراعي لزراعة جميع المساحة المتاحة في العراق بخاصة والولايات المختلفة الأخرى بعامة، إلا أن ذلك تطلب منظومة من الشبكات الإروائية والسدود التي تضمن زراعة تلك المساحة من خلال تأمين كميات المياه اللازمة لذلك، فقد عمل الخليفة العباسي"أبو جعفرالمنصور"على تنظيم وسائل الإرواء بغية الاستفادة القصوى من كميات المياه المتاحة، وذلك بإقامة السدود على نهر الفرات للسيطرة على مياهه ثم توزيعها على جداول وقنوات لتحقيق الاستفادة القصوى من النهر، فتمكنوا من زراعة وإرواء جميع الأراضي الممتدة من شمال الصحراء الغربية، وحتى منطقة الجبال في شمال بلاد الرافدين وصولا إلى شواطئ الخليج العربي جنوبا•
كما أنهم أقاموا سدين في شمال غرب بغداد ليتوزع منهما نهران، هما نهر "الدجيل" الذي جعلوا له قنوات تنفذ في الشوارع والدروب لإيصال المياه إليها صيفًا وشتاء(18)، ونهر كرخايا" لسقاية البساتين هناك، وفي أطراف بغداد أقاموا سدين للسيطرة على مياه نهري "القلائين والبزازين" اللذين تم تنفيذهما لسقاية بساتين هذه العاصمة(19)، وكذلك أقاموا سدًّا على نهر"عيسى" وعملوا عليه سدًّا آخر ليتفرع عنه نهر "الصراة" مارًّا بمنخفض"عقرقوف" ثم أقاموا سدًّا آخر ليتفرع عنه نهر "الخر" وهو معروف اليوم باسم نهر "الخير" قد طمر لاحقًا، ومع اتساع حجم خزانات المياه والسدود التي سيطروا على مياهها ونظموا تدفقها جعلوا لها ديوانًا سموه ديوان الأقرحة (يقصد به ديوان الماء)(20).
ومن الأنهار العظيمة التي شقها العباسيون نهر "النهروان" الذي عملوا له سدًّا عند الجهة الشرقية لنهر دجلة جنوب بلدة الموصل ليمتد النهر 150 ميلاً شمال بغداد، ثم يمتد من العاصمة العباسية جنوبًا ولمسافة 100ميل حتى شمال مدينة واسط(21).
علمًا أن هناك محاولات أخرى نفذت في مواقع أخرى أيام الدولة العباسية، كالسد الذي اقترحه وحاول تنفيذه الحسن بن الهيثم على نهر النيل في مصر* إلا انه لم يفلح ولم نتمكن من معرفة الأسباب وراء ذلك، مع العلم أن هناك العديد من العرب والمسلمين الذين أبدعوا في هذا المجال منهم أبناء موسى بن شاكر(22) والمهيمن قيصر بن أبي القاسم وعبد الغني بن مسافر(23).
كما أن العرب والمسلمين في الأندلس أبدعوا أيضًا في مجال السدود، فقد أوضح المؤرخ "سديو" واصفًا مهارتهم في ذلك نقلا عن مجلة نور الإسلام فقال عنهم: وأبدعوا في الريّ أيمّا إبداع ويدل عليه ما فعلوه في "سهل هوسط" الذي يقسمه "نهر طونة" إلى قسمين فإنهم وقفوا تيار هذا النهر على بعد فرسخين من مصبه بوساطة سد، ثم اشتقوا منه سبعة جداول ثم عمدوا إلى كل جدول من هذه الجداول السبعة فاشتقوا منه جداول ثانوية يفتح كل منها في ساعة معينة(24).
وهنا علينا أن نتوقف قليلاً ونتساءل، لماذا جعلوا لهذا النهر سبعة جداول ولكل جدول جداول ثانوية؟ فهل يا ترى جعلوها سبعة جداول على عدد أيام الأسبوع؟ وكم كان عدد هذه الجداول الثانوية؟، فإن كانت مؤلفة من جدولين أو ثلاثة أو أربعة أو أي عدد من الجداول الثانوية، فهذا يعني أنّهم كانوا يسقون وفق جدول زمني أسبوعي، وإن كان يوم من أيام الأسبوع كان الريّ وفق جدول يومي على أساس عدد ساعات محددة، أي أن العرب والمسلمين في الأندلس كانوا في غاية الدقة في توزيع المياه والتصرف.

نجم حضارتنا

نعم؛ سيشع نجم حضارتنا مجددًا، حضارة لم ولن تقومَ على استنـزافِ خيراتِ الشعوبِ ونهبِ ثرواتها واستعبادِ الناسِ والمتاجرةِ بهم والتحكم في مصيرهم، ولا بغزواتٍ عسكريةٍ كانت أو فكرية واحتلال للأراضي فضلًا عن العقول.. ولا حضارة تبني وتزيّن جدران أديرتها بعظامِ وجماجمِ البشر! وبناءِ المعتقلات والسجونِ وإنشاء الثكناتِ العسكرية في كل حدبٍ وصوب! حضارة من نوع آخر لا تصنف بصعود القمر أو إطلاق أقمار الفضاء أو اختراع هنا واكتشاف هناك..
إنني في حنين لحضارتي حضارة الإسلام، وما فتئت حضارتي منتظرةً بلا كلل لشيء واحدٍ فقط ليشعَّ نجمها الآفلُ من جديد؛ إنه (الإسلام) الذي هو خيرُ الأديانِ وأمتُه خيرُ الأمم وحضارتهُ أعرقُ الحضارات، تلك الحضارةُ التي تستمدُّ دستورها من القرآن الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، إنها حضارةُ الخُلق والإبداعِ التي لم يعرف العالم عنها شيئًا إلا بعدَ أن شعَّ نور الإسلام وأشرق وأضاء، إنها حضارةُ العدلِ والموازينِ القسط.. حضارةُ تحترمُ البشرَ وتحافظُ على حقوقهم..
حضارةٌ جامعةٌ شاملةٌ تنشرُ نفوذها في العالم بمبادئها وقيمها وتجعلها أساسًا لهدايةِ الناسِ والبشريةِ جمعاء.

صناعة الأمل والعمل

لا أحسب أن أحدًا يستطيع أن يتجاوز ما يمر بأمتنا من الأحداث دون أن يقف عندها ويطيل النظر فيها، ونحن نرى ونسمع كل يوم ما يفت في عضدنا، ويوهن من قوتنا، ويضعف من عزيمتنا، فعندما نرى كل أمتنا العربية -بما لها من عدد وعُدَّة، وسياسة واقتصاد، وطاقات وإمكانات- تجتمع لتعطيَ العدو الصهيوني المجرم فرصة لمزيد من إجرامه وعبثه بمقدساتنا وأعراضنا، وذلك بإقرار المفاوضات غير المباشرة مع الكيان الصهيوني، وقد رأينا في الأسبوع الماضي ما حل بالأقصى في صلاة الجمعة، وما سبق ذلك من ضم مسجد الخليل ومسجد بلال بن رباح إلى قائمة التراث اليهودي، وما زال العدوان مستمرًّا، وأمامَ كل هذا لا نسمعُ إلا أن هذا قد يفضي إلى توقف المفاوضات!!
إنني لا أقول هذا لترويج اليأس كما تفعل بعضُ وسائل الإعلام، إنما أردت لفت النظر إلى استغلال هذه الأحداث الكبيرة من أجل صناعة الأمل والعمل.
إننا نجد في كتاب الله صورة مكررة للعبرة والعظة يذكرها سائر أنبياء الله -عليهم السلام- في ظروف المحنة العصيبة والظلمة الشديدة:
- فهذا موسى بعد أن خرج مطارَدًا فقيرًا يرفع يديه قائلاً: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24]؛ فتفتح الأبوابُ وتتيسر الأمور، فيتزوج ويعمل، ثم يكلل كل ذلك بالنبوة، ويخص بتكليم الله .
- وأيوب بعد أن أقعده المرض وانقطعت أسباب الشفاء من البشر {نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء: 83]، فجاءت النتيجة الفورية: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} [الأنبياء: 84]، وجاء الفرج المتتابع بعد ذلك.
- وخاتم الأنبياء سيدنا محمد بعد سوء استقبال سفهاء الطائف يصلي ركعتين ثم يقول: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى عدو يتجهمني[1] أم إلى قريب ملكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي غضبك، أو يحل عليَّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك)[2]. فساق الله له نفرًا من الجن فآمنوا به، وأنزل ملك الجبال ليكون تحت أمره، وبعدها بيسير كان الإسراء والمعراج.
وما هي إلا بضعُ أعوام حتى دخل الناس في دين الله أفواجًا، وعمَّ الإسلام أرض العرب في أقصر مدة.
ويوم الأحزاب حين اجتمعت شدة البرد والجوع والخوف، وكان الموقف العصيبُ كما قال سبحانه: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا} [الأحزاب: 10، 11]؛ كان موقفُ المؤمنين: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].
إنه ليس مع الإيمان يأس، وليس مع اليقين عجز، فإن حصل اليأس أو العجز فثمة خلل في الإيمان، وضعف في اليقين.
نحن أمة الإسلام والقرآن، أمةُ: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139]، فنحن الأعلون وإن ضعفنا من الناحية المادية.
نحن أمة اليقين بقول الحق I: {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47].
نحن أمة الوعد الرباني: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} [غافر: 51].
نحن أمة محمد المبشرِ بقول الحق في حديثه الصحيح: "ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزًّا يعز الله به الإسلام، وذلاًّ يذل الله به الكفر"[3].
نحن أمة (حطين) التي استعادت فلسطين دون أن يمر على احتلالها قرن من الزمان، نحن أمة (عين جالوت) التي انتصرت على التتار الذين أبادوا الأخضر واليابس حتى أيس بعضُ الناس من القدرة على مواجهتهم، فضلاً عن الانتصار عليهم.
ونحن اليوم أمة عبد القادر الجزائري الذي قاد التحرير ضد فرنسا، وطردها بعد 130 عامًا من الاحتلال.
نحن أمة عبد الكريم الخطابي الذي أخرج الفرنسيين والإسبان من المغرب.
نحن أمة عمر المختار الذي أخرج الإيطاليين من ليبيا.
نحن أمة عبد القادر الحسيني الذي جاهد الإنجليز واليهود في فلسطين، وغيرهم كثير.
نحن أمة أطفال الحجارة، وشباب الانتفاضة، ورجال المقاومة وأبطال الجهاد في فلسطين الذين علَّموا الدنيا كلها أن الإيمان واليقين لا يهزمهما شيء، مهما كانت القوى المدججة بالسلاح.
نحن أمة الإيمان والعبادة.
نحن أمة الشرف والسيادة.
نحن أمة الصبر واليقين.
نحن أمة النصر والتمكين.
نحن أمة الرسالة للعالمين.
نحن أمة الشهادة على الخلق أجمعين.
إن وعد الله صادق لا يتخلف إن صدقنا مع الله: {وَكَانَ حقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40].
فعلينا أن نقاوم الكسل والخمول في واقعنا؛ في العمل وفي العلم وفي الإنجاز! علينا أن نجود بوقتنا وجهدنا وفكرنا ومالنا لنصرة ديننا وأمتنا في أي ميدان من الميادين؛ خدمةً لمجتمعنا وأمتنا حتى نحدث تغييرًا في واقعنا: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].
وعلينا أن نستعيد في قلوبنا قوة الإيمان واليقين والثقة بنصر الله، ولتكن أحاديثنا مع أبنائنا وطلابنا في مدارسنا وجامعاتنا فيما يؤهلهم ليكونوا رجالاً أبطالاً أصحاب همم عالية وعزائم قوية، ولنعلنها عالية: لا للكسل، نعم للأمل، لا للإحباط، نعم للجد والنشاط.
نسأل الله I أن يقوي الإيمان في قلوبنا، وأن يجعل أملنا في الله عظيمًا، وتوكلنا على الله صادقًا، وعملنا لوجهه خالصًا.
د. علي بن عمر بادحدح

شباب آخر زمن


هذا العنوان اخترته قبل أكثر من عشر سنوات لمحاضرة ألقيتها على الشباب في نشاط صيفي، وقبل البدء وزعت أوراقاً على الجمهور ليكتبوا توقعاتهم عن دلالة العنوان؛ فجاء معظمها عن (شباب المخدرات) (شباب التقليعات) وهكذا، ثم اخترت العنوان نفسه لمحاضرة ألقيتها في إحدى الجامعات، وكررت السؤال وتكرر الجواب، وها أنا ذا اليوم أكرر العنوان نفسه.
في المرة الأولى تحدثت عن شباب المقاومة والانتفاضة في فلسطين، وقدمت نماذج منهم في العشرينات والثلاثينات من العمر؛ لكنهم قدموا أرواحهم في سبيل الله وأرعبوا العدو الصهيوني حتى صار يعد قتل الواحد منهم نصراً عسكرياً وإنجازاً استخبارياً من الطراز الأول.
وفي المرة الثانية تحدثت عن شباب التطوع والخدمة في أعمالهم المتنوعة لمساعدة المحتاجين وإغاثة المنكوبين والمحافظة على البيئة وحملات التوعية ونحو ذلك.
ففي كل مرة كنت أحرص على أن أقدم صورة إيجابية عملية شواهدها حية وأمثلتها قوية، وذلك لأنني مؤمن بأن في شبابنا خيرًا كثيرًا، وأن في داخله طاقة حيوية، وفي نفسه مشاعر خيرية، وفي فكره آراء ورؤى إيجابية، وأن المشكلة تكمن في أنه ليست هناك قنوات تستوعب الطاقة وتستثمر الحيوية وتوجه الفكر وتحول هذا الشباب إلى قوة دافعة منتجة.
أمتنا شابة، ونسبة الشباب في مجتمعاتنا هي الأكبر عالمياً، واليوم جلّ شبابنا متعلمون، ومع الانفتاح الإعلامي والثورة المعلوماتية صار أكثرهم مطلعين وجلّهم واعين، ورؤيتهم للواقع فيها طموح للأفضل ورغبة في التغيير والإصلاح، وعند مقارنتهم لواقع دولهم ومجتمعاتهم مع دول ومجتمعات أخرى أقل في الموارد والثروات وليس لديها
ما في الإسلام من شرائع محكمة، وأخلاق فاضلة، ومنهجية متكاملة؛ ومع ذلك يرون تلك الدول متفوقة علمياً، ومنتجة صناعياً، ومتقدمة اقتصادياً، وهنا نجد الاتجاهات مختلفة؛ ففئة تستسلم لليأس والإحباط، وقلة تهوي مع الملهيات والمخدرات، وجموع أخرى تتحرك لمزيد من التعليم والتأهيل والتطوير والتغيير.
وشباب اليوم – كما رأينا في الأحداث – هم شباب الثورة والانتصار، وهنا أسجل معالم جديدة لشباب آخر زمن .
إنهم شباب التقنية والتواصل في الفيس بوك والتويتر واليوتيوب والبلاك بيري .
إنهم شباب التعليم والتدريب من خريجي الجامعات والحاصلين على الشهادات والمنخرطين في الدورات .
إنهم شباب الوحدة الوطنية الذي يوحّد ولا يفرّق ، ويأتلف ولا يختلف .
إنهم شباب المدينة والحضارة الذي يحافظ على المرافق العامة وينظف الشوارع ويمارس السلوك الحضاري .
إنهم شباب السلم الاجتماعي الذي يرفض العنف ويمتنع عن التخريب ويتقن فن الحصول على الحقوق بإيجابية وحيوية وقوة وقدرة دون حاجة للمواجهة والعنف .
إنهم شباب الوعي السياسي الذي قدم نموذجاً في الفهم والتحليل وأسس بناء الدولة الحديثة .
إنهم شباب واعد لديه كثير مما يمكن أن يقدمه ويسهم به في خدمة مجتمعه ونهضة أمته .
وهناك قلق لمسته لدى بعض الغيورين أنهم يريدون لهذا الشباب صبغة دينية لها في أذهانهم صورة معينة، وأنا لست قلقاً بشكل كبير، ولا شك أنني محب وحريص على تدين شبابنا، ولكنني أقول إن تدينهم فطري، وإن كثيرين منهم ملتزمون بالفرائض ولديهم عاطفة إيمانية ورؤى إسلامية، ولا ننسى أن إسهامهم التقني والعلمي والعملي ودفعهم لعجلة الحياة المدنية هو إسلام؛ فالإسلام هو الحياة، فتحية لشبابنا.
 وآمل أن يقولوا لنا: " اللهم اجعلنا خيراً مما يظنون واغفر لنا وما لا يعلمون "، وأنا أتمنى أن يكونوا أعلى من قول القائلين ومدح المادحين، وأن يترجموا قول الشاعر:
قد نهضنا للمعالي ومضى عنا الجمود *** ورسمنا خطى للعز والنصر تقود
وأن يجسدوا الصورة المتمثلة في قول الشاعر:
على قدر أهل العزمِ تأتي العزائمُ *** وتأتي على قدر الكرامِ المكارمُ
وأخيراً أهديهم قول إقبال:
همُمُ الأحرار تحيي الرِّمَما * نفخةُ الأبرار تُحيِي الأُمَمَا

خيرية الأمة

تناولنا في مقال سابق جوانب من وسطية الأمة الإسلامية، وأكدنا أنه لا وسطية إلا بالمحافظة على العمل بهدي خاتم النبيّـين صلى الله عليه وسلم والاستقامة على سُنّـته.. وأي انحراف عن هذه الجادّة، هو انحراف عن مسار الأمة الوسط، قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}[آل عمران:110].
وفي هذا المقام يسعنا أن نلقي الضوء على الأمة الخيّـرة التي تشهد على الناس جميعًا، فتـقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم، وتبدي فيهم رأيها، فيكون هو الرأي المعتمد، وتـزن قيمهم وتصوّراتهم وتقاليدهم وشعائرهم، فتفصل في الأمر، وتقول: هذا حق، وهذا باطل.
 والرسول صلى الله عليه وسلم يقرّر لها موازينها وقيمها، ويحكم على أعمالها وتقاليدها، ويزن ما يصدر عنها، ويشهد عليها، ويقول الكلمة الأخيرة.
 والتعبير بكلمة «أُخْرِجَتْ» يلفت النظر، وهو يكاد يشي بالقدرة اللطيفة، تُخرج هذه الأمة إخراجًا، وتدفعها إلى الظهور دفعًا من ظلمات الغيب، ومن وراء الستار السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله تعالى. إنها كلمة تصوّر حركة خفيفة المسرى، لطيفة الدبيب.. حركة تُخرج على مسرح الوجود أمّـةً وسطًا، ذات دور خاص، لها مقام خاص، ولها حساب خاص، وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة الإسلامية، خير الأمم، لتعرف حقيقتها وقيمتها، وتعرف أنها «أُخْرِجَتْ» لتكون طليعة، ولتكون لها القيادة، بما أنها خير أمّة، والله عزّ وجلّ يريد أن تكون القيادة للخير لا للشرّ في هذه الحياة. ومن ثم لا ينبغي لخير أمّـة أن تـتلقّى من غيرها من أمم الأرض قاطبة، وإنما ينبغي دائمًا أن تعطي الأمم الأخرى مما عرفـته من كتاب ربّـها، وسُنّـة نبيّـها؛ من الاعتقاد الصحيح، والتصوّر الصحيح، والنظام الصحيح، والخُلق الصحيح، والعلم الصحيح، هذا واجب خير الأمم، يحتّـمه عليها مكانها القيادي، وتحتّـمه عليها غاية وجودها، كما أن من واجبها أن تكون في الطليعة دائمًا، وفي مركز القيادة دائمًا، ولهذا المركز تبعاته، فهو لا يؤخذ ادعاءً، ولا يسلم لها به إلا أن تكون هي أهلاً له.

وأمتنا بتصوّرها الاعتقادي، وبنظامها الاجتماعي أهلٌ له، فبقي عليها أن تكون بتـقدّمها العلمي، وبعمارتها للأرض -قيامًا بحق الخلافة- أهلاً له كذلك، وبهذا يتبيّـن أن منهج هذه الأمة يطالبها بالشيء الكثير، ويدفعها إلى السبق في كل مجال، لو أنها تـتبعه وتلـتزم به، وتدرك مقـتضياته وتـكاليفه.
 وفي قوله جلّ شأنه: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّـةٍ} ثـلاثـة أوجـه: أحدها: «كان» تامة، فالمعنى وُجدتم خير أمّة، كأنه قال: أنتم خير أمة في الوجود الآن؛ لأن جميع الأمم غلب عليها الفساد، فلا يعرف فيها المعروف، ولا ينكر فيها المنكر، وليست على الإيمان الصحيح الذي يَزَع أهله عن الشـرّ، ويصرفهم إلى الخير، وأنتم تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله إيمانًا صحيحًا يظهر أثره في العمل.
 الوجه الثاني: «كان» ناقصة، والمعنى حينـئذ، كنتم في علم الله، أو كنـتم في الأمم السابقة، كما في كتبها المبشّرة بكم خير أمّة. وقال أبو مسلم: إن هذا القول يقال لمن ابيضّت وجوههم، والمعنى كنتم فيما سبق من أيّام حياتكم خير أمّة، شأنكم كذا وكذا، وبذلك كان لكم هذا الجزاء الحسن. فالكلام عنده تـتمة للآيات السابقة، فكما ذكر فيها ما يقال لمن اسودّت وجوههم، ذكر أيضًا ما يقال لمن ابيضّـت وجوههم.. وقيل غير ذلك.
 الوجه الثالث: «كان» بمعنى صار، أي صرتم خير أمّـة. وإذا فسّـرت «كُنتُمْ» بغير ما قاله أبو مسلم - وهو ما أُرجّحه - كانت الجملة شهادة من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم ومن اتـبعه من المؤمنين الصادقين إلى زمن نزولها بأنها خير أمّـة أخرجت للناس بتلـك المزايا الثلاث، ومن اتـبعهم فيها كان له حكمهم لا محالة، ولكن هذه الخيريّـة لا يستحقّـها من ليس لهم من الإسلام واتّـباع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الدعوى، وجعل الدّين جنسيّـة لهم، بل لا يستحقّـها من أقام الصلاة، وآتى الزكاة، وصام رمضان، وحج البيت الحرام، والتزم الحلال، واجتنب الحرام، مع الإخلاص الذي هو روح الإسلام، إلا بعد القيام بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وبالاعتصام بحبل الله، مع اتـقاء التـفرّق، والخلاف في الدّين! {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ ومن ثم نبصر في مقدمة مقتضيات مكانة خير أمّـة؛ أن تقوم على صيانة الحياة من الشرّ والفساد، وأن تكون لديها القوة التي تمكّـنها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهي خير أمّـة أخرجت للناس، لا عن مجاملة أو محاباة، ولا عن مصادفة أو جزاف، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. إنه النهوض بتكاليف الأمّـة الخيّـرة، بكل ما وراء هذه التكاليف من متاعب، وبكل ما في طريقها من أشواك، وإنه التعرّض للشرّ، والتحريض على الخير، وصيانة المجتمع من عوامل الفساد، وكل هذا متعب وشاق، ولكنه - كذلك - ضروري لإقامة المجتمع وصيانـته، ولتحقيق الصورة التي يحبّ الله عزّ وجلّ أن تكون عليها الحياة.
 ولابد من الإيـمان الصحيـح في حياة الأمّـة ليوضع الـميزان الصحيح للقيم، والتعريف الصحيـح للمعـروف والمنكر، فإن اصطلاح الجماعة وحده لا يكفي، فقد يعم الفساد حتى تضطرب الموازين وتختل، ولابد من الرجوع إلى تصور ثابت للخير والشر، وللفضيلة والرذيلة، وللمعروف والمنكر، يستـند إلى قاعدة أخرى غير اصطلاح الناس في جيل من الأجيال.
 وهذا ما يحقّـقه الإيمان في حياة الأمّـة، بإقامة تصور صحيح للوجود وعلاقته بخالقه، وللإنسان وغاية وجوده ومركزه الحقيقي في هذا الكون، ومن هذا التصوّر تنبثـق القواعد الأخلاقيّة، ومن الباعث على إرضاء الله والبعد عما لا يرضاه، ينـدفع الناس لتحقيق هذه القواعد، ومن سلطان الله في الضمائر، وسلطان شريعته في المجتمع تقوم الحراسة على هذه القواعد كذلك.
 والله الموفق والمستعان.

أحبك ولكن ... !


الحب أيها الصديق لا مثنوية فيه، ولا يحتاج إلى إفراط في الاعتدال، نبض القلب، وشوق الروح، فلم الاستدراك إذاً؟ "أحبك ولكن أختلف معك!"
وهل يوجد اثنان إلا وبينهما اختلاف ما ؟
هل لحظة التعبير عن الحب هي أفضل وقت للحديث عن الاختلاف؟
وربما لو لم تكن مختلفًا معي ما أحببتني ولا أحببتك، فالمرء يبحث عن شيء مختلف بعدما أحب نفسه التي هي هو!
هل سمعت بالشاعر المثقب العبدي الذي يقول:
فَإِمّا أَن تَكونَ أَخي بِحَقٍّ ... فَأَعرِف مِنكَ غَثّي مِن سَميني
وَإِلّا فَاطَّرِحني وَاتَّخِذنـي ... عَــــدُوّاً أَتَّـقـيـــــكَ وَتَـتَّـقيـنـــي
فإني إنْ تخالفني شمالي ... بشــيءٍ ماـ وصلتُ بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلتُ بينـي ... كـذلك أجتـوي مـن يجتـوينـي!
أتراه صادقاً؟
كلا؛ فالإخاء الحق ليس موافقة تامة، ولا ذوبانًا، ولا تبعية، وقد يخالفك أحب الناس إليك ويظل الحب قائمًا رغم الخلاف، وليس البديل عن الحب هو العداء والحرب، وربما مرّت بالحب عاصفة عابرة كدَّرت الصفو ثم هدأت وعادت دماء الحب تجري في العروق!
ألا تعلم أن لغة الصفح والتسامح تعني القوة والسيطرة على المشاعر السلبية، أن تملك نفسك عند الغضب {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى:37] !
"أحبك ولكنْ احتفظ بكرامتي وكبريائي وعزة نفسي".
كلا أيها الصديق، فالحب لا يجيد هذه الحسابات، ولا يعد التواضع للحبيب ذلاً أو مهانة..
هَنيئاً مَريئاً غَيرَ داءٍ مُخامِرٍ ... لِعَزَّةَ مِن أَعراضِنا ما اِستَحَلَّتِ
"أحبك بصمت ولا أستطيع البوح".
ليس هذا بمقدورك، فالحب الصادق تبوح به العيون والملامح والقسمات إن لم تعبِّر عنه الحروف والكلمات، والبوح هو الماء الزلال الذي يروي شجرة الحب ويبعد عنها شبح الجفاف والتَّيبُّس!
وَتَلَفَّتَتْ عَينِيْ فَمُذْ خَفِيَتْ ... عَنِّيْ الطُّلُولُ تَلَفَّتَ القَلبُ
"أحبك ولكن العتب يطرى على بالي!"
لك العتبى حتى ترضى، والعتب العابر حياة للحب، ما لم يتحول إلى ملامة دائمة توحي بانفكاك رباط الوصل!
"أحبك ولكن جرحك غائر في ضميري"
لله قلبك الطيب الذي ما زال يحتفظ بالحب رغم الجراح، لم لا تعوّد قلبك نسيان الآلام ليكون أقدر على استقبال موجات الفرح والسعادة؟
"أحبك ولكن أغار عليك"..
وهل تقبل أن يتحول الحب إلى أنانية واستفراد؟
أوليست الغيرة مفتاح الفراق فلم الغيرة في غير ريبة؟
أليس لأجل دوام الحب يتوجب مدافعة الشعور السلبي والاستعانة بذكر الله ودعائه على نوازع النفس الضعيفة؟
"أحبك ولكن أعرف أن الطريق إليك مستحيل"!
كلا؛ لا مستحيل مع الإيمان بالله القادر على التغيير:
وَقَد يَجمَعُ اللهُ الشَّتِيتَينِ بَعدَما ... يَظُنَّانِ كُلَّ الظّنِّ أَن لاَ تَلاَقِيَا!
والطرق إلى الحبيب بعدد الأنفاس والخطرات !
"أحبك ولكن البُعد قدر مكتوب"
والحب قدر مكتوب.. والمؤمن يدافع القدر بالقدر، وإذا تقاربت القلوب فلا يضير تباعد الأجساد!
"أحبك ولكن هل تحبني؟"
لئن كنت السابق بالفضل، فلا أقل من أن أبادلك الجميل بمثله
وَلِلقَلبِ عَلى القَلبِ ... دَليلٌ حينَ يَلقاهُ!
وإذا عجزت عن أن أكون مبادرًا مثلك فلأتعلم منك وأقفو خطاك!
"أحبك ولكن على طريقتي.."
لك ذلك.. فللناس فيما يعشقون مذاهبُ!
ربما لا تحسن تزويق العبارات ولا سبك الألفاظ ولا نظم القصيد، فحسبي قلبك الطاهر ولسانك العف، وحفظك لمحبك في حضوره ومغيبه!
"أحبك ولكن كيف أنساك؟"
أرجو ألا ينسيك الشيطان ذكر أخيك، فليس الحب سجنًا تطلب الفكاك منه.. فإذا طرأ النسيان عليك فهي آية تقصير أو ذنب أحدثته وحيل بيني وبينك بسببه، فاستغفر الله العظيم من كل ذنب يحول بيني وبين أحبتي.
"أحبك ولكن تغيّرت"!
وَقَد زَعَمَت أَني تَغَيَّرتُ بَعدَها ... وَمَن ذا الَّذي يا عَزَّ لا يَتَغَيَّرُ؟
إن الحب الحق هو ذاك الشعور الراسخ الذي قد يتغير في طريقته ولكن لا يحول ولا يزول.. حتى الموت لا يمحوه، وفي لقاء الآخرة {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
أحبك يا وطني.. ولكن..
ويلي عليك، وويلي منك!
أحبك.. ومن الحب ما قتل!

حكيم الحكماء والفتى

 
أرسل أحد التجار إبنه لكي يتعلم سر السعادة من اكبر حكماء زمانه سار الفتى طوال أربعين يوماً في الصحراء قبل أن يصل أخيراً إلى قصر جميل يقع على قمة جبل حيث يعيش الحكيم الذي يبحث عنه وبدل أن يلقى رجلاً قديساً دخل قاعة تعجّ بالحركة والناس تجار يدخلون ويخرجون وأناس يثرثرون في أحدى الزوايا وجوقة تعزف قطعاً موسيقية عذبة ومائدة حافلة باشهى الأطعمة وكان الحكيم يتكلم إلى هؤلاء وأولئك فإضطر الفتى أن يصبر ساعتين كاملتين قبل أن يحين دوره.

إستمع الحكيم بإنتباه إلى الفتى وهو يشرح سبب زيارته لكنه قال أن لا وقت لديه ليكشف عن سرّ السعادة وإقترح على الفتى أن يقوم بجولة في القصر وأن يعود إليه بعد ساعتين.

وأضاف الحكيم وهو يعطي الفتى ملعقة صغيرة فيها نقتطا زيت " بيد أني أريد منك أثناء تجوالك أن تمسك بهذه الملعقة على نحو لا يؤدي لإلى إنسكاب الزيت منها "

بدأ الفتى يصعد وينزل على سلالم القصر ويتفتل في الغرف الفاخرة مثبتاً عينيه بإستمرار على الملعقة وعاد بعد ساعتين
فسأله الحكيم هل شاهدت جمال وروعة القصر التحف والسجاجيد الفارسية والحديقة الغناء ؟

إعترف الفتى مرتبكاً أنه لم يشاهد شيئاً بسبب تركيزه وإهتمامه بعدم سقوط نقطتي الزيت من الملعقة
فقال الحكيم حسناً عد الآن وتعرّف إلى هذه الروائع وشاهدها جيداً لأننا لا نستطيع الوثوق برجل إذا نحن لم نتعرف إلى المنزل الذي يسكنه

أخذ الفتى الملعقة وقد غدا أكثر ثقة بنفسه وعاد يتجول في القصر مولياً هذه المرة إنتباهه للتحف والسجاجيد وشتى أنواع الورود والأشجار في الحديقة ولدى عودته إلى الحكيم تدث الفتى بدقة عن كل ما شاهده
عندها سأله الحكيم وأين نقطتي الزيت اللتان عهدت بهما إليك ؟

فأدرك الفتى وهو ينظر إلى الملعقة ضياعهما
عندئذ قال حكيم الحكماء : " تلك هي النصيحة الوحيدة التي يمكنني أن اسديها إليك إن سرّ السعادة هو أن تشاهد كل روائع الدنيا دون أن تنسى إطلاقاً نقطتي الزيت في الملعقة "

ولا أعلق عليها إلا كما قال أمير المؤمنين عليه السلام :

(ليس الزهد أن لا تملك الأشياء ولكن الزهد أن لا تملكك الأشياء )