Thursday, August 1, 2013

الفكر الخلدوني في العصبية والعروبة

الفكر الخلدوني في العصبية والعروبة


لم تحتَلَّ مشكلةٌ من مشكلات الفكر الخلدوني بخاصة، والفكر التاريخي الإسلامي بعامة، المكانةَ التي احتلتْها نظرية ابن خلدون في العصبية، ودورها في قيام الدول وسقوطها.

وحول هذه المشكلة (العصبية والدولة) قدَّم الدكتور "محمد عابد الجابري" أطروحته في الفلسفة، وأمضى عشر سنوات في البحث، ساعيًا للوصول إلى "معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي"، ومع أنه بذل جهدًا علميًّا ضخمًا، إلا أن عمله الكبير لم يخلُ من بعض الاستنتاجات الخاطئة، وإن كنا نعترف بأنه أقرب إلى الموضوعية والعملية، من أمثال: "عبدالله العروي"[1]، وعلي أومليل[2]، وساطع الحصري[3]، ومهدي عامل[4]، ونور الدين حقيقي[5]، وغيرهم، فضلاً عن الدكتور طه حسين الذي لم يتوافر لدراسته عن "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"[6] الحدُّ الأدنى من شروط المنهج العلمي.

والفرق بين ما كتبه الجابري وهذه الدراسات، يشبه الفرق بين العمل العلمي الأكاديمي، والأعمال التي لا يحكمها المنهج؛ وإنما توجِّهها أيديولوجياتٌ مسبقة، تسعى إلى قهر النص وتوجيهه وجهةً تأويلية لحساب عقيدةِ كاتبِها.

كانت العصبية هي المفتاحَ الذي حل به ابن خلدون جميعَ المشكلات التي يطرحها سيرُ أحداث التاريخ الإسلامي إلى عهده، وقيمةُ آراء ابن خلدون تكمن في الإشكالات العديدة التي تطرحها نظريتُه في العصبية والدولة، وفي العلاقة القائمة بينهما، هذه العلاقة التي تُحدِّد في نظر ابن خلدون شكلَ العمران، وتجسِّد حركة التاريخ[7].

ومن خلال عدد من التساؤلات يقِيم الجابري دراسته الكبرى حول نظرية العصبية عند ابن خلدون:
لماذا تتحول العصبية من مجرد رابطة سيكولوجية اجتماعية إلى قوة للمواجهة والمطالبة، ومن ثم تأسيس الملك والدولة؟ لماذا تضعف العصبية بمجرد بلوغها غايتها من المُلك، والشروع في جني ثمراته؟ لماذا تفسُدُ العصبية بالترف والنعيم؟ لماذا تسقط الدولة بفساد عصبيتها؛ لتقوم عصبية جديدة بتأسيس دولة جديدة؟ ثم لماذا كانت الحضارة "غاية للعمران، ونهاية لعمره، مؤذِنة بفساده"؟ وأخيرًا لماذا كانت حركة التاريخ الإسلامي حركةَ انتقال من البداوة إلى الحضارة، حركة تسير لا على خط مستقيم؛ بل على شكل دَوْرة؟[8].

وهذه النظرية الخلدونية التي يدير عليها الجابري بحثَه الكبير من خلال هذه التساؤلات - ترتبط بها - من وجهة نظرنا - قضيتان، هما مناط عنايتنا في هذا المقام:
أولاهما: صلة الإسلام بهذه العصبية.
ثانيهما: موقف الفكر الخلدوني من العنصر العربي.

ليست العصبية الخلدونية مرحلة واحدة تقف عند النسب والمصاهرة والدم؛ وإنما كانت هذه المرحلة هي الأساس - على الأقل - في مستوى البدو الذين كانوا موضوع البحث الاجتماعي والحضاري عند ابن خلدون، إن هذه العصبيةَ القائمة على الرحِم القريب في أقوى حالاتها الخاصة، والبعيد في حالاتها العامة - تتطور لتتجاوز النسب، وتصبح التحامل الحاصل بسببه؛ حيث تفقد العصبية معناها النسبيَّ بعد أربعة أجيال، فتصبح الجماعة العينة - أو العصبية - أقرب إلى الجماعة التي جمعها العيش لفترات في مكان معين، وارتبطت مصالحُها المشتركة؛ بحيث وجب عليهم أن يكونوا "قوة للمواجهة" في وجه التحديات.

وفي مجتمع البادية تبرز عصبية المستوى الأول (الخاص)، وفي مجتمعات العمران أو الحضارة يبرز المستوى العام؛ فعصبية البادية قابلةٌ للتطور مع الانفتاح على العمران، والمجتمع المتحضر تظهر فيه آفاقٌ جديدة للتعاون والتكافل، والدينُ أو الدعوة الدينية، سواء أكانت نبوة؛ كما وقع على يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أم دعوة إصلاحية؛ كما رأينا في العصر الحديث على يد محمد بن عبدالوهاب - رحمه الله - تصبح الأكثر تفوقًا على العصبية في المستوى الأول؛ فهي الأقدر على جمع القلوب وتأليفها: ﴿ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ﴾ [الأنفال: 63]، وهكذا كما يقول ابن خلدون: فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويُذهب عنهم مذمومات الأخلاق، ويأخُذهم بمحمودها، ويؤلِّف كلمتَهم لإظهار الحق، تم اجتماعُهم، وحصل لهم التغلبُ والملك[9]، بل يسرع ابن خلدون في عبور هذه المرحلة البدوية إلى مرحلة العصبية الدينية الجامعة، فيرى أن وحدة الدين تزيد العصبيةَ بالنسب قوة، وتصبح قادرة على إحداث انقلاب في الأوضاع، يتجلَّى في تحوُّل هؤلاء الرعاة الحفاة الموغلين في الفيافي والقفار إلى بُناةِ حضارة، ومشيِّدي عُمران، ومؤسسي ممالك ودُول[10].

بل إن ابن خلدون يكاد ينفصل عن عصبية النسب والدم إلا في مستواه البدوي، حين يقرر أنَّ ما من دولة كبيرة إلا وأصلها الدِّين (إما بالنبوة أو دعوة حق)[11]؛ فالدعوة الدينية تزيد الدولةَ في أصلها قوةً على قوة العصبية؛ بسبب أن الصِّبغة الدينية تَذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية، وتُفرِد الوجهة إلى الحق، فإذا حصل لهم الاستبصارُ في أمرهم، لم يقف شيءٌ لهم؛ لأن الوجهة واحدة، والمطلوب متساوٍ عندهم، وهم مستميتون عليه؛ فالعلاقة بين العصبية والدين علاقة تآزُر وتكامل، وبالدين وحده تتطور هذه العصبية - التي تشكل مؤقتًا ومرحليًّا بُوتقة التحام وانصهار - إلى مشروع حضاري تذوب فيه العصبية، وترتفع فيه الأخوة الإسلامية التي تجعل "سلمان منا أهل البيت"، "وأبو بكر سيدُنا وأعتق سيدَنا"؛ أي: بلالاً الحبشيَّ - رضي الله عنهم.

ومن الطريف أن الدكتور "محمد عابد الجابري" كاد يقترب من هذه الحقائق، بينما نجد بعض أساتذة الفكر الإسلامي المخلصين له، يأخذون على ابن خلدون رأيه في العصبية[12]، دون أن يُبصِروا مساحةَ هيمنة الدين على العصبية، الهيمنة شبة الكاملة عنده، إن رأيَ ابن خلدون - كما استخلصه الجابري - يتلخَّص في أن قوة العصبية مستمدة أساسًا من (الالتحام)، الذي هو ثمرة النسب، فإذا أضيف إلى هذا الالتحامِ الاجتماعي التحامٌ آخرُ روحيٌّ، كانت العصبية من القوة بحيث لا يقف أمامها شيء[13].

ويتألق المعنى الإسلامي للعصبية حين يتحدث ابن خلدون عن جماعات الإصلاح أو التغيير أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذين لا يملكون قوة حقيقية للتغيير، فيدمرون أنفسهم، ويُسِيئون إلى الإسلام، فكأن العصبية إذًا تقوم على أي قوة قادرة على التغيير، وليس على العصبية القَبَلية والقومية.

فابن خلدون يرى أن تغيير الأوضاع الفاسدة لا يتأتى مطلقًا بمجرد الدعوة إلى أوضاع أحسن، بل لا بد من قوة مادية تنصر هذه الدعوة، والقوةُ المطلوبة هنا - وفي كل حالة مماثلة - هي العصبية؛ ولذلك نجده ندَّد - بقوة - بدُعاة الإصلاح، الذين بسبب جهلهم للطبائع ولأهميةِ العصبية على العموم - يكلِّفون أنفسَهم وأتباعهم من العامة ما فوق طاقتهم، ولا يحققون شيئًا سوى إثارة الفوضى، ونشر الاضطراب[14]، يقول ابن خلدون في هؤلاء المتهورين أو المتطرفين: "ثم اقتدى بهذا العمل بعدُ كثيرٌ من الموسوسين، يأخذون أنفسهم بإقامة الحق، ولا يعرفون ما يحتاجون إليه في إقامته من العصبية، ولا يشعرون بمغبة أمرهم، ومآل أحوالهم، والذي يحتاج إليه في أمر هؤلاء، إما المداواة إن كانوا من أهل الجنون، وإما التنكيل بالقتل أو الضرب إن أحدثوا هرجًا، وإما إذاعة السخرية منهم وعدُّهم من جملة الصفاعين"؛ أي: الكذابين[15].

ومع أن الدكتور مصطفى الشكعة يندهش كثيرًا مما ذهب إليه ابن خلدون في شأن ارتباط إتمام الدعوة الدينية بالعصبية، وأن هذه الدعوة من غير عصبية لا تتم[16]، إلا أنه يعود ويذكُر أن ابن خلدون ينقُض ما ذهب إليه في شأن العصبية؛ حيث يفرد فصلاً عنوانه: (الدول العامةُ الاستيلاءِ، العظيمةُ المُلكِ، أصلُها: الدين) [17]، مقللاً من شأن العصبية، رافعًا من شأن الدين!

والحقيقة أن العصبية مرحلة خاصة، وظرف حضاري وتاريخي، والدين يكتنفها ويوجِّهها في إطارها الحضاري؛ إطار: ﴿ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ﴾ [الأنفال: 63].

وهكذا نجد أن صلةَ الإسلام بالعصبية في الفكر الخلدوني، إنما هي صلة الرُّوح بالمادة؛ فالدين هو الذي يجعل من هذه (الكائنات القومية) كائناتٍ قابلةً للحضارة والفعالية والإبداع، والخروج من مستوى التحديات المناخية والجغرافية والعدوانية القَبَلية، إلى مستوى المشروع العالمي الرُّوحي والعقلي والخُلُقي والمادي، والذي يقدم حضارة منفتحة لائقة بإنسانية الإنسان، واستخلاف الله للإنسان؛ من أجل تحقيق العمران، وليس في فكر ابن خلدون أي تناقض، بل هو تدرُّج فكري يتناغم مع الظروف والأوضاع، فإذا تركنا موقف الإسلام من العصبية، ومن المنهج الخلدوني على النحو الذي بسطناه، وانتقلنا إلى الإشكالية الثانية، وهي موقف ابن خلدون - أو الفكر الخلدوني من خلال نظرية العصبية - من العنصر العربي؛ وجدنا أنفسنا أمام موقف حادٍّ ثار حوله لغطٌ كبير، واختلفت فيه الآراء اختلافًا جذريًّا، إن القوميين العرب - مثلاً - لن يسمحوا بأن تحتلَّ آراء ابن خلدون في العنصر العربي مكانتها في الوعي الإسلامي والعربي بهذا الشكل الذي قال به ابن خلدون؛ فهم بين خسارتين، كلتاهما فادحة؛ إما خسارة المكانة المتميزة للعنصر العربي بمحض جنسيته العربية بالإسلام أو بدون الإسلام، وإما التضحية بابن خلدون، وهو بالنسبة لهم مفخرة عربية رائعة، لا يجوز التضحية بها، ورَمْيُ صاحبها بالشعوبية ضد العرب، ومن ثم تَرْك آرائه في العرب تتصدر الآراء، فتَحُول دون المد القوميِّ والسيادةِ العربية القائمة على الجدارة الذاتية.

ومن الطريف أن بعض الإسلاميين العرب يلتقون تمامًا مع جموع القوميين في هذه المنطقة.

لقد كتب العلامة ابن خلدون سبعة فصول، تقدِّم عناوينُها أسلوبًا واضحًا، بل يراها بعضهم تشكل منظورًا متطورًا استفزازيًّا أو عدوانيًّا ضد العرب، وفي الفصول السبعة تَرِدُ العناوين على النحو الآتي:
فصل في أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط[18].

فصل في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب[19].

فصل في أن العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية؛ من نبوة، أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة[20].

فصل في أن العرب أبعدُ الأمم عن سياسة الملك[21].

فصل في أن العرب أبعدُ الناس عن الصنائع[22].

فصل في أن المباني التي كانت تختطها العرب يسرع إليها الخراب[23] إلا في الأقل.

فصل في أن حَمَلة العلم في الإسلام أكثرهم العجم[24].

وما أظن هذه العناوين غامضةً أو تحمل تأويلاً!

وما أظن العلامة عبدالرحمن بن خلدون - وهو الفقيه المالكي، وعالم الأصول واللغة - عاجزًا عن التعبير عن أفكاره بدلالات لغوية محددة، لا سيما وهو يتكلم في قضية خطيرة تهم شعبًا كاملاً، اختصه الله بالرسالة الخاتمة، وأنزل بلسانه العربي آخرَ الكتب السماوية، وجعله المهيمن عليها، والمقوِّم لما داخَلها من انحراف فكري ولغوي!

ولئن عجز رجل في مستوى ابن خلدون عن تقديم أفكاره بطريقة محددة في قضايا خطيرة على هذا النحو، فإن ذلك يمثل مشكلة أخرى، قد تجرنا إلى منهج سوفسطائي، أو حسب التعبير الذي نفضله: منهج (زئبقي)، يسمح بكل إسقاط وبكل احتمال، ويقود - في الحقيقة - إلى ضياع فكري شامل، وهو أمر يتعارض مع منهج أسلافنا، الذي عُرِفوا بالدقة والتحري في استعمالاتهم اللغوية، وقدروا خطورة المصطلحات؛ نظرًا لِما ينبني عليها من أحكام تشريعية ومفاهيمَ عقيدية.

ومن الجدير بالذكر أن ابن خلدون عندما قدَّم هذه العناوين القاطعة الحاسمة التي ذكرناها، والتي تربط بوضوح كامل بين ازدهار العنصر العربي بالإسلام حين يتمثله فكرًا ومنهجًا، وبين انحطاطه حين يتخلى عنه - لم يكتفِ بتقديم هذه الأحكام المجملة، بل قدم لكل عنوان أو (حكم) أسبابَه وتفسيراته التي تبرره؛ فعندما يصف العرب بأنهم قوم لا يتغلبون إلا على البسطاء، وبأنهم لا يقتحمون معركة أو مجالاً، إلا إذا كان الأمر سهلاً ميسورًا لا يحتاج إلى مكابدة، أو تخطيط أو أساليب دقيقة تحقِّق الغلبة، وعندما يصفهم بهذه الصفة التي تجعلهم أقربَ إلى المنتهزين المغتصبين، يبرِّر ذلك - عن عمد - بطبيعة التوحُّش فيهم؛ وذلك لأنهم أهل انتهاب وعبث ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركوب خطر، ويفرون إلى منتجعهم بالقفز، ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة، إلا إذا دَفَعوا بذلك عن أنفسهم[25].

وعندما يصف العربَ بأنهم لا يحصل لهم المُلك إلا بصِبغة دينية؛ من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة، يعتمد على هذا العنوان الطويل الذي يكاد يحمل حيثياتِهِ معه، في ملاحظة واعية تضبط الحكم ضبطًا علميًّا ودلاليًّا بطريقة كاملة، ومع ذلك فهو لا يكتفي بهذا، بل يقدِّم حيثيات إضافية لحُكمه على العرب: "فطبيعتهم انتهابُ ما في أيدي الناس، وإن رزقهم في ظلال رماحهم، وليس عندهم في أخذ أموال الناس حدٌّ ينتهون إليه، بل كلما امتدت أعينُهم إلى مال أو متاع أو ماعون انتهبوه، فإذا تم اقتدارُهم على ذلك بالتغلب والملك بطَلت السياسةُ في حفظ أموال الناس وحرب العمران"[26].

وليس الأمر أمر (طبيعتهم) فقط، بل إنهم في المستويين الاجتماعي والسياسي لا يصلُحون بغير دين، وهم "يتنافسون في الرئاسة، وقلَّ أن يسلِّم أحدٌ منهم الأمر لغيره، ولو كان أباه أو أخاه أو كبير عشيرته إلا في الأقل، وعلى كُرْهٍ من أجل الحياء، فيتعدد الحكام منهم والأمراء، وتختلف الأيدي على الرعية في الجباية والأحكام؛ فيفسد العمران وينتقض"[27].

فابن خلدون يجرِّد العرب من إمكانية أي استقلال عن الدين؛ فجذورهم البدوية لا تسمح بذلك، وطبيعتُهم التي اكتسبوها عبر تاريخهم شكَّلتهم تشكيلاً خاصًّا، فإما أن يقودَهم "وحي" أو فكرة دينية، وإما أن يتآكلوا، أو يكونوا تبعًا لدول كبرى محيطة بهم!

وعندما يصور ابن خلدون العربَ بأنهم أبعد الأمم عن صناعة الملك والدولة تأكيدًا لرأيه السابق، يدعم رأيه ذلك بأن العرب نظرًا لخُلُق التوحُّش الذي فيهم أصعبُ الأمم انقيادًا بعضهم لبعض؛ للغِلظة والأَنَفة وبُعْد الهمة والمنافسة في الرياسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية، كان الوازع لهم من أنفسهم، وذهب خُلق الكِبر والمنافسة منهم؛ فسهل انقيادهم واجتماعهم، وذلك بما يشملهم من الدين المُذْهِبِ للغلظة والأَنَفة، والوازع عن التحاسد والتنافس[28].

فالدين هو الذي يوحِّدهم ويجعلهم ينقادون لأمير أو نبي، ويعالج أمراضَهم الأخلاقية العنصرية، ويهذِّب وجدانهم، ويعطيهم الدافع الحضاري لصناعة الملك والامتداد في الأرض.

وعندما يأتيهم الملك، فإنهم - أي: العرب - لا يصلحون أيضًا لقيادته من غير دين، بل سرعان ما يأكل بعضهم بعضًا، ويبيع بعضهم بعضًا للأعداء؛ وذلك لأنهم "أكثر بداوة من سائر الأمم، وأبعد مجالاً في القفر، وأغنى عن حاجات التلول وحبوبها؛ لاعتيادهم الشظف وخشونةَ العيش، فاستغنوا عن غيرهم؛ فصعُب انقياد بعضهم لبعض؛ لإيلافهم ذلك وللتوحش"[29].

وتاريخهم - كما يرى ابن خلدون - هو أكبر دليل على ذلك؛ فإن العرب لما ذهب أمرُ الخلافة منهم، انقطع الأمرُ جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم لا يعرفون الملك ولا سياسته، بل قد يجهل الكثير منهم أنهم قد كان لهم ملك في القديم[30].

ولمزيد تأكد ووضوح يقول ابن خلدون أيضًا:
"وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكون مآلُه وغايته إلا تخريبَ ما يستولون عليه من العمران"[31].

فالعرب لا يصلحون للتعامل مع الدولة والملك من غير دين، لا في أول الأمر؛ أي: في مرحلة إنشاء الدولة، ولا في وسط الأمر؛ أي: في مرحلة السيطرة على الدولة، بله التخطيط لاستمراريتها، والحفاظ على ثوابتها أو دعائمها ومقوماتها، بل كثيرًا ما يفرِّط العرب (اللادينيون) في ثوابت دولتهم وأمتهم، ويبيعونها للأعداء، ويتنازلون حتى عن لغتهم وتاريخهم وما بقِيَ من دينهم، وحتى لو حصل لهم نزو طارئ على دولة، فهم يقودونها إلى الخراب بسرعة كبيرة، وذلك كله - كما يرى ابن خلدون - عندما يكونون من غير دين؛ أي: من غير الإسلام!

وبدهي أن يكون هؤلاء الناس أبعدَ الأمم عن الصنائع والعلوم العقلية؛ فذلك نتيجة منطقية لقوم يرفضون أن يحترموا طبيعتهم الفطرية، ويريد لهم بعضهم أن يمشوا في التاريخ من غير الإسلام.

ومع كل هذا الذي يقدمه ابن خلدون من أحكام وتعليلات، فإن المتعصبين للقومية المستقلة المعادية للإسلام - بدلاً من مناقشة القضية في ضوء تاريخ العرب الذي يصوِّرُ طبائعهم قبل الإسلام وبعده، والخروج بنتيجة واقعية تقويمية لهذه الآراء - أراحوا أنفسهم، والتقى بعضُ الإسلاميين معهم فقالوا: إن ابن خلدون يقصد شريحةً معينة من العرب، وهي شريحة الأعراب والبدو!

فأستاذنا الدكتور عبدالواحد وافي - رحمه الله - في بداية عرضه للقضية - وقبل القيام بعملية التحليل - يصدر النتيجة المريحة قائلاً: "والحقيقة أن ابن خلدون لا يقصد من كلمة "العرب" في مثل هذه الفصول الشعب العربي؛ وإنما يستخدم هذه الكلمة بمعنى الأعراب أو سكان البادية الذين يعيشون خارج المدن، ويشتغلون بمهمة الرعي"[32].

ثم يبدأ الدكتور وافي عرض النصوص الواردة في المقدمة، وإرغامها على الوصول إلى النتيجة التي استهل بها دراستَه.

ويلتقي أستاذنا الدكتور مصطفى الشكعة مع أستاذنا الدكتور وافي - رحمه الله - في الباب الثامن من كتابه حول: (الأسس الإسلامية في فكر ابن خلدون ونظرياته)، يعالج أستاذنا الشكعة - أطال الله عمره - موضوع "ابن خلدون والعرب"، وينتهي بعد عرضه لآراء مَن يرون تحامل ابن خلدون على العرب، ومن يرون العكس إلى أن هذه الصفاتِ التي ذكرها ابن خلدون لا تنطبق إلا على الأعراب دون العرب، ويأسف لأن مؤرخنا الكبير يتورط في مثل قوله في العرب: "وانظر إلى ما ملكوه وتغلَّبوا عليه من الأوطان مِن لدن الخليقة، كيف تقوَّض عمرانه، وأقفر ساكنه، وبدلت الأرض فيه غير الأرض؛ فاليمن قرارهم خراب، إلا قليلاً من الأمصار، وعراق العرب كذلك، قد خرب عمرانه الذي كان للفرس أجمع، والشام لهذا العهد كذلك، وإفريقية والمغرب لما جاز إليها بنو هلال وبنو سليم منذ أول المائة الخامسة وتمرسوا فيها لثلاثمائة وخمسين من السنين، قد لحق بها وعادت بسائطه خرابًا كلها، بعد أن كان ما بين السودان والبحر الرومي كله عمرانًا".

فرأي الدكتور الشكعة هو رأي الدكتور عبدالواحد وافي إلى حد كبير، وإن اختلفت الأدلة وأساليب الاستنتاج والتحليل، وقد ناقش المفكرانِ الكبيران كلاًّ من الدكتور طه حسين في رسالته بالفرنسية عن: "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، والأستاذ محمد عبدالله عنان مترجم كتاب طه حسين، ومؤلِّف كتاب: "ابن خلدون حياته وتراثه الفكري"، وفي رأيَيْهما اللذين ذهبا فيهما إلى أن ابن خلدون كان يقصد الشعب العربيَّ كله، ونحن نوافقهما في دحض آراء طه حسين، التي حاول من خلالها الاعتمادَ على رأي ابن خلدون لاستعداء العرب ضده، والذهاب إلى ازدرائه، ورفض كل فكره التاريخي خدمةً لأساتذته في باريس، كما أننا لا نوافق الأستاذ "عنان" في أن باعثَ ابن خلدون على التحامل على العرب - إن كان هناك تحامُل - هو ولاؤه للبربر وللدول البربرية التي عاش في كنفها؛ فهذه اجتهادات جانَبَها التوفيقُ إلى حد كبير!

ويتجه إلى هذا المنحى في محاولة تبرئة العرب مما نسبه إليهم ابنُ خلدون - مع التزامه بالرؤية الإسلامية -: الأستاذُ (محمد العبدة) عند تحليله لمصطلح (العرب) في مقدمة ابن خلدون؛ فقد رأى أن هذا المصطلح من أكثر المصطلحات التي ثار حولها الجدلُ عند دارسي المقدمة؛ فقد استعمله ابن خلدون تارة بمعنى البدو، وتارة بشكل عام، أو الجنس العربي، فصبوا جام غضبهم عليه، واتهموه بالشعوبية، وقد تبيَّن لي - أي: للأستاذ محمد العبدة - أنه يستعمل كلمة (العرب) في الغالب للقبائل التي تعيش على رَعْي الإبل؛ فهم لهذا أكثر الأمم بُعدًا عن التحضر؛ لأنهم دائمًا مُوغِلون في الصحراء، ويستعمل ابن خلدون هذا المصطلح أيضًا للقبائل عندما تتحضر، ولكن صبغة البداوة تبقى غالبة عليها؛ فهي تختار المدن المناسبة لطبيعتها الأولى، ولا تهتم بالماء والموقع، وتبقى طريقة البناء والتعامل مع المدينة هي هي؛ فهم يحتقرون المهن والصنائع، ولا يشجعون أصحابها بإعطائهم ما يستحقون، ولا يهتمون بالمشروعات الكبيرة التي تؤسِّس للمستقبل؛ فطابع البداوة لا يزال مؤثِّرًا فيهم، وكذلك يستعملها للذين ينتقلون فجأة من البداوة إلى الحضارة ولا يستطيعون إقامة التوازن المطلوب[33].

ثم ينتهي الباحث في تحليله إلى أن استعمال ابن خلدون لكلمة (العرب) يشوبه شيءٌ من الغموض، وشيء من التشاؤم، ولقد عاش في فترة طويلة مع القبائل العربية والبربرية، ودرس طباعَهم وطريقة تفكيرهم، وشاهد الغارات المتكررة من عرب بني هلال وسليم على الدول التي ما أن تنشأ حتى تزول؛ فكان هذا سببًا لأن يفكر طويلاً في هذه الظاهرة: لماذا يعيش هؤلاء على السلب والنهب؟ وإذا استقروا كيف يتصرفون؟ ومع أن تحليلاته صحيحةٌ في الجملة، إلا أنه في قضية خطيرة مثل هذه كان الواجب أن يوضح مقصده، ويزيل الالتباس بين كلمتي البدو والعرب، ولعل طريقته في التعميم - إذا اقتنع بقضية ما - هي التي أدَّتْ به إلى هذا الغموض[34].

والحقيقة أن تحليل الأستاذ محمد العبدة لمصطلح العرب في استعماله الخلدوني يندرج مع تلك التحليلات التي ترى في الاستعمال الخلدوني لهذا المصطلح غموضًا ولَبْسًا، بيد أن التحليل العام للأستاذ العبدة لا يندرج مع تلك التحليلات التي ترى أن للعرب كيانًا ذاتيًّا مستقلاًّ عن الإسلام، وبالتالي فرؤيته (للعرب) كقوم تقف في خندق التحليلات المنتمية للرؤية الموضوعية الإسلامية.

أما صديقنا الكبير الدكتور عماد الدين خليل - وهو كاتب إسلامي ثقة - فقد رفض رأي ابن خلدون في العرب، ورأى هذا الرأي مجرد رد فعل نفسي وفكري إزاء ما أحدثته بعض قبائلهم في الشمال الإفريقي، مضافًا إلى ذلك رغبة خلدونية درج عليها "من التعميم الذي مارسه في أكثر من مكان، والذي يقود بالضرورة إلى مد المقولات أو النظريات أو القوانين إلى أكبر مدى زماني أو مكاني؛ لكي يعطيها صفة الشمولية؛ ويجعلها أكثر ثقلاً وأهمية في حركة التاريخ على حساب الوقائع التاريخية نفسها.

ومن ثم؛ فإنه إذا كانت بعض القبائل العربية في فترة ما من فترات تاريخها لا تقدر على التغلب إلا على البسائط، عُمِّمت في مقدمة ابن خلدون وأصبحت: (إن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط)[35]، وإذا كانت بعض الجماعات العربية لدى تغلبها على بعض الأوطان أسرع إليها الخراب، عُمِّم ذلك في مقدمة ابن خلدون وأصبح: (إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب)"[36]!

والحقيقة أنني أختلف مع الاتجاه القومي الذي يمثله ساطع الحصري وتلامذته في عملية التأويل، ورفض مقولة الأعراب أو البدو على رأي ابن خلدون الواضح جدًّا، كذلك فإنني أختلف - أيضًا - مع آراء أساتذتنا الأفاضل الذين يذهبون هذا المذهب، ومنهم الدكتور عبدالواحد وافي، والدكتور مصطفى الشكعة، وأختلف كذلك مع صديقي الدكتور عماد الدين خليل في تحليله واستنتاجه الذي "عممه" على ابن خلدون في أحكامه، وإذا كنت كذلك لا أوافق طه حسين وعبدالله عنان في تحليلاتهما، إلا أنني أرى أن ابن خلدون لم يكنْ من السذاجة بحيث يسوق هذه الفصولَ الكثيرة الواضحة، وهو يعني شريحة ضئيلة من العرب، وهي شريحة البدو بعد أن كان العمران قد استبحر، ونشأت الحواضر الإسلامية والعربية الكبرى، وظهرت الجامعات والجوامع العظمى، كما أن الأمر لم يكن مجرد إشكالات في الأسلوب أو المصطلحات أدى إلى "هذا اللبس في كلمة (عرب)، فوقعت أخطاء عظيمة في فهم موقف ابن خلدون من العرب، حتى لقد ظُنت به الظنون"، كما يرى الأستاذ الدكتور عبدالرحمن مرحبا[37].

فابن خلدون كان يعي ما يقول، وهو يقصد الشعب العربي بإطلاق، وعندما يريد ابن خلدون أن يستثنيَ، فإنه يعي أيضًا ما يقوله، ويقدم استثناءه واضحًا، فيرى عبر دراسة ذكية شاملة للتاريخ العربي وللإنسان العربي جبلة وتاريخًا اجتماعيًّا وسياسيًّا - أن هذا الإنسانَ لا يصلح بغير نبيٍّ، وأن تاريخه ينقسم قسمين واضحين، لا لَبْسَ فيهما: القسم الذي ارتبط فيه هذا الإنسانُ العربي بالنبوة وبصبغة دينية، وهم في هذا القسم ليسوا مجرد بشر، وصنَّاع الحضارة، وساسة الملك، والقسم الثاني - وهو الأغلب - حين ينفصل العرب عن النبوة وعن الدين وعن الصِّبغة الدينية، إنهم ينحدرون فورًا من مستوى الملائكية والإنسانية العالية، ليس إلى مستوى العقل أو العمل وَفْق المصلحة الدنيوية أو قوانين الاجتماع الإنساني، بل إلى مستوى البداوة والانحطاط؛ حيث يكونون أقرب إلى "الحيوانية"، يقاتل الواحد منهم أخاه، ويخون الواحد منهم وطنَه، وتدور بينهم حروب على ناقةٍ أربعين سنة، ويتباهون بأيامها، وينسَون الأخطار المحدقة بهم من أعداء دينهم ووطنهم، فيتقاتلون على حدود وهمية صنعها لهم أعداؤهم، ويتسمَّوْن بأرفع الأسماء.

ترى هل ينتظر من رجل مثل ابن خلدون أن يتغافل عن قصة العرب في الأندلس، وكيف دارت الحروب الطاحنة في عصر الولاة بعد الفتح بسنوات قليلة لمدة أربعين سنة (93 - 138هـ) صراعًا على الحكم بين القحطانيين والعدنانيين، أو الشاميين والحجازيين، وقد قامت ثورات متعددة في عهد عبدالرحمن الداخل لولا حزمه الشديد؟!

ومنذ منتصف القرن الثالث الهجري قامت حروب أخرى للصراع على الحكم، فيما يعرف بعصر الطوائف الأول، حتى قضى على الفتن عبدُالرحمن الناصر الذي حكم خمسين سنة.

ومع مطلع القرن الخامس الهجري دخلت الأندلس في عصر الفتنة وملوك الطوائف المعروف، الذي استمر نحو ثمانين سنة (399 - 478هـ)، وانتهى بسقوط طليطلة إلى الأبد في يد النصارى، وانقسمت الأندلس فيه إلى اثنتين وعشرين دولة، كان ابن حزم يصف حكامها بقوله: "والله لو علموا في عبادة الصلبان تمشيةً لأمورهم، لعبدوها!"، وكان الشاعر ابن شرف يتحدث عن ألقابهم قائلاً:
ألقابُ مملكةٍ في غيرِ موضعِها
كالهِرِّ يحكي انتفاخًا صَوْلةَ الأسدِ

ولم تكد دولة المرابطين البربرية توحِّدهم وتنقذهم، حتى بدؤوا يَضِيقون ذرعًا بها، فاضطرت للاستيلاء على الأندلس، وحتى في عصر غرناطة الأخير حين أصبحت الأندلس (دولة إقليم) غرناطة، ووادي آش، وما حولهما، هل سكنت الفتن بين بني الأحمر القحطانيين؟! إن تاريخ غرناطة معروف، وفيه من الشناعات ما يندى له الجبين، وقد أشرفتُ على رسالة ماجستير لطالب سعودي عنوانها: "الخلافات الأسرية بين بني نصر وأثرها في سقوط غرناطة"[38]، وهي توضِّح أن هذه الخلافات لم تنقطع قط حتى انقسمت (الدولة الإقليم) في آخر الأمر إلى دولتين، ثم انتهى أبو عبدالله يبكي مثل النساء مُلكًا لم يحفظه - كعربي خان دينَه - حِفْظَ الرجال!

فإذا ذهبْنا إلى المغرب الكبير منذ كان الوالي عبدالله بن الحبحاب يفرض الجزية على مَن أسلم من البربر، حتى فرض المظالم الأخرى، التي دفعت مسلمي المغرب إلى اعتناق (المذهب الخارجي) معارضةً للسلطة، وكان أن تأججت النزعة الخارجية، ومعها تأججت النزعة العنصرية عند البربر الذين كانوا مسالمين، والذين كان منهم ثلاثة أرباع الجيش الفاتح للأندلس؛ فانقسم المغرب مع منتصف القرن الثاني الهجري وبدايات العصر العباسي إلى أربع دول: الأغالبة في تونس، وبني رستم في تاهرت، وبني مدرار في سِجِلْماسة، والأدارسة المنشقين على العباسيين في المغرب الأقصى، وجاء الشيعة الفاطميون فاستثمروا هذا كله، ولم ينقذ المغربَ عائدًا به إلى وحدته السنية إلا المرابطون المسلمون الصادقون من قبيلة صنهاجة البربرية، الذين فتح اللهُ على يدي قائدَيْهم العظيمين يوسف بن تاشفين وأبي بكر بن عمر اللمتوني الأندلس وغرب ووسط إفريقيا.

وجاء الموحدون - البربر أيضًا - فقاموا بدورهم، وحتى عندما سقطت دولتهم، بقِي بنو مرين - وهم من البربر - يساعدون الأندلس ضد النصارى، ويطيلون ما استطاعوا عمر غرناطة التي تقاتَلَ فيها العربُ من بني نصر أو بني الأحمر القحطانيين على الحكم.

وهكذا انتهى ابن خلدون إلى مقابلة بين تاريخي المغرب والأندلس، وإلى مفاضلة بين دور البربر ودور العرب، وكيف كان همُّ العرب هو الحكمَ والاستعلاء العنصري، بينما كان همُّ البربر خدمة الإسلام ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وكانت دول البربر الجامعة المغربية البربرية (المرابطية والموحدية والمرينية) هي الظهير للأندلس، الذي كان مريضًا بسرطانٍ عضال، هو العنصرية القَبَلية، ثم القومية ضد البربر.

وفي يقيني أن نظرة ابن خلدون امتدتْ إلى التاريخ الإسلامي كلِّه حتى عصره، وأنه أبصر انحطاط العرب حين يتخلَّوْن عن الإسلام، وشعورهم بالتفوق لمحض الجنس، وإيمانهم بأحقيتهم في الحُكم حتى لو افتقدوا المؤهلات، وزهدهم في الصنائع والزراعة والعلوم؛ باعتبارها حِرَفًا تليق بعامة الشعب، وبالذين يريدون أن يرفعوا من مكانتهم الاجتماعية.

ولم ينكر ابن خلدون سموَّ العرب وعظمتَهم حين يرتبطون بالإسلام ارتباطَ عقيدة وإخلاص ودعوة، وليس ارتباط مصلحة سياسية أو اجتماعية، وابن خلدون يتحدث عن العرب في هذه المرحلة؛ مرحلة ذوبانهم في الإسلام، وتبدُّل طباعهم بالصِّبغة الدينية، فيقول:
"وإنما يصيرون إليها - أي: إلى سياسة الملك - بعد انقلاب طباعهم وتبدُّلِها بصِبغة دينية تمحو ذلك منهم، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم، وتحمِلهم على دفاع الناس بعضهم عن بعض - كما ذكرناه - واعتبِرْ ذلك بدولتهم في الملة، لما شيَّد لهم الدينُ أمر السياسة بالشريعة وأحكامها المراعية لمصالح العمران ظاهرًا وباطنًا، وتتابَع فيها الخلفاء - عَظُم حينئذٍ ملكُهم، وقوِيَ سلطانهم، كان رستم إذا رأى المسلمين يجتمعون للصلاة يقول: أكل عُمَرُ كبدي، يعلِّم الكلابَ الآدابَ، ثم إنهم بعد ذلك انقطعت منهم عن الدولة أجيال نبذوا الدين فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قَفْرهم"[39].

"بَعُدَ عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين، فرجعوا إلى أصلهم من البداوة، وقد يحصل لهم في بعض الأحيان غَلب على الدول المستضعفة كما في المغرب لهذا العهد، فلا يكونُ مآلُه وغايته إلا تخريبَ ما يستولون عليه من العمران كما قدمنا، ﴿ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ ﴾ [البقرة: 247]"[40].

وهكذا كان ابن خلدون واضحًا كل الوضوح في ربطه العرب والعروبة بالإسلام صعودًا وهبوطًا؛ فهم بالصِّبغة الإسلامية أفضلُ الناس، وهم بدون الإسلام أحطُّ الناس وأذلُّهم، وأقلُّهم عقلاً وخُلقًا ورشدًا.

بل إن ابن خلدون كان واضحًا تمامًا في تفضيله البربر عليهم حين يكون الأخيرون على الصبغة الإسلامية (كالمرابطين والموحدين)، فيما يكون العرب مشغولين بذاتهم القَبَلية في صراعات على النفوذ في الحكم، ونزعات الاستعلاء المتأصلة في كثير منهم، ولم توجد أدنى شبهة في التراث الخلدوني تدل على انحياز خلدوني للعرب خارج نطاق صبغتهم الإسلامية، بل إنه كان أصرح المفكرين وأقواهم في سلب العرب الخارجين على سلطان الدين، ومع ذلك الوضوح وهذه الصراحة القوية التي تركت بصماتها في الفكر الحضاري الإسلامي، لم تعدم بعض المفكرين القوميين الذي راحوا يلفون ويدورون في سبيل إسقاط النزعة القومية العروبية غير الإسلامية على الفكر الخلدوني تمامًا، وحذو النعل بالنعل مثل تلك الحركات المادية والليبرالية التي سلكت الطريق نفسه.

وكنموذج لهؤلاء نقتبس ما يقوله الأستاذ "رضوان إبراهيم" في مقدمة كتابه: "المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون" يقول: "وحسنة أخرى لابن خلدون هي تجميعه للعرب والعروبة بمفهومها الواسع على الصعيد الفكري النقدي، ومزاولة القومية مزاولة عملية؛ فقد مثَّل بنفسه دور "المواطن العربي" حينما جاب هذا الوطن من غربه إلى شرقه، وشغل نفسه بقضايا العرب أينما حل، وتكلم باسمهم في كل محفل، وسَفَرَ عنهم، وفاوض في شؤونهم، وقضى بينهم، واستهدف إصلاحَ جماعاتهم بما أوتي من قوة الشخصية، وحصافة الفكر، وجاه المنصب"[41].

وفي موضع آخر يتابع الكاتب إسقاطاته القومية فيقول: "كان - ابن خلدون - داعية للوحدة العربية في هذا الوقت الباكر من حياة العروبة، وقد أثبت بمجموعة أعماله إلى أي حد يمكن أن تكون الثقافة العربية وشيجة قوية بين أبناء العروبة جميعًا؛ ففي هذه الفترة التي عاشها ابن خلدون استطاع على رغم التفكك السياسي والاجتماعي أن يمنحنا الثقةَ في إمكان قيام وحدة عربية سليمة البنيان، أساسها: الفكر واللغة والأدب والجهود الثقافية النافعة المخلصة (أي: لا دين لها).

وقد أثبت - أي: ابن خلدون - في هذه الظروف العصيبة أن وحدة اللغة العربية، وما تحمل من نبضات فكرية وعاطفية وثقافية، تصلح أن تكونَ جسر الأمان الذي يعبره العرب إلى وحدتهم المتكاملة إذا تحررت الإرادة وتواءمت الخُطى.

لقد كانت العروبة هي الشعاع المضيء (!) عبر كل ما كتب ابن خلدون؛ فمن أجل العرب وقف جهوده على تسجيل تاريخهم، ورواية أمجادهم القديمة (!)؛ ليشحذ عزائم الأجيال الراهنة والمقبلة، وليدل على المعدن الأصيل الذي أنجب هذه الأمةَ، وليصور كيف كان العرب هم السوادَ من عين الخليقة، وكل الأمم من حولهم حواشٍ وأهداب[42]..".

وهذا الكلام الذي يلقيه الكاتب على عواهنه - على كل حال - يتناغم مع الأسلوب الإسقاطي غير العلمي الذي كان سائدًا في عصر المد الاشتراكي القومي في أنحاء من العالم، لكنه لا يصمد أمام البحث الموضوعي العلمي، بل على العكس لم يوجد عالِم عربي أو مسلم اتُّهم بسبه العنيف للعرب القوميين غير الإسلاميين مثل العلامة ابن خلدون، أليس هو الذي كتب فصولاً كاملة ذات عناوين حادة على النحو الذي ذكرناه[43]، اعتُبرت أكبر اللطمات الشائعة للعنصرية العربية؟ فقد وصم فيها العرب بأنهم (لا يتغلبون إلا على البسائط)، وأنهم (إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليه الخراب)، وأنهم (أبعد الأمم عن سياسة الملك)، وأنهم (أبعد الناس عن الصنائع)، وأن (حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم)، وأن العرب (لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينيةأفلا تكفي هذه النعوت الثابتة لإقناع أصحاب العقول برأي ابن خلدون في أن العرب لا يصلحون لشيء إيجابي من غير الإسلام؟ وهم من غير الإسلام أعجز عن أن يبنوا دُولاً ذات سيادة حقيقية، أو أن يصنعوا قوة حضارية مؤثرة في التاريخ؟!

أفلا تكفي هذه النعوت الواضحة جدًّا؛ لكي نضع العرب في خندقهم الصحيح، وهو الإسلام، الذي يشبه البحر بالنسبة للسمك، فلا حياة حقيقية للعرب بدونه إلا ريثما يفترسهم المفترسون، ويأكلهم الآكلون؟!

وأمَا آن لنا أن نكف عن تأويل آراء ابن خلدون الواضحة جدًّا؛ لكي نفرض عليها أن تتساوق مع نزعات بعض القوميين والعشائريين الذين يريدون إخراج العرب من بحرهم المحيط، لكي يجردوهم من وقود المشي في طريق الحضارة الصحيحة الكاملة، ولكي يدفعوهم إلى مؤخرة الناس بعد أن كانوا بالإسلام شامة الدنيا، ونموذج الإنسان الصحيح الذي يعيش لنفسه ولغيره، ويقدم حضارة إنسانية ربانية، تقيم الحق والعدل بين القوي والضعيف، والغني والفقير، والعربي والعجمي، ولا فرق بين أمريكي من رعاة البقر وعربي من أشاوس قريش إلا بالعمل الصالح والتقوى؟!

ومرة أخرى نؤكد أن النصوص الواردة حول العرب في مقدمة ابن خلدون لا تحتمل تأويلاً؛ فهم بالإسلام ساسةُ الدنيا، وأصحاب الملك العظيم، والسلطان القوي، حتى ليعترف رستم بأنهم أكلوا كبده من الغيظ؛ لتبدُّلهم العجيب حين يلتزمون بالآداب في الصلاة، مع أنهم في رأي رستم كانوا قبل الإسلام كلابًا، أما حين يفقد العرب الإسلام، فإنهم يفقدون عقولهم وضمائرهم وأخلاقهم، ويعودون إلى أصلهم من البداوة والقفار، ولنلاحظ بدقة كلمة: (أصلهم) التي يستعملها ابن خلدون، فكأن للعرب عنده (جِبِلَّة خاصة) - وهو محقٌّ في رأيه - فقد أثبت التاريخ فعلاً قبل ابن خلدون وبعده حتى يومنا هذا، الذي ما زالت الحوادث المعاصرة تلقي فيه بظلالها الكئيبة - أن للعرب (جبلة خاصة) من بين سائر البشر، ولعله لهذا السبب اختارهم اللهُ طليعة الرسالة العالمية الباقية إلى يوم القيامة؛ ليعرف الناسُ من خلال نموذجهم الفطري البدائي أثر الوحي في الحياة، ويتجلى أمام أعينهم الفرقُ العملي الحي الهائل بين الارتفاع مع الوحي والانخفاض بدونه!

فالعرب حين يصبغون بالصبغة الإسلامية يقدمون النماذج الإنسانية قلبًا وعقلاً وضميرًا وأخلاقًا، وحين يفقدون هذه الصبغة يفقدون - وبطريقة مباشرة - مؤهلاتهم للحياة، فينحدرون إلى مستوى عميق في التشرذم والتخريب لغيرهم إن استطاعوا، ولأنفسهم بالدرجة الأولى، ويَفقدون - بطريقة فذة فريدة (!) - الرؤية الصحيحة للأشياء ولأبجديات البقاء، وربما يتلهون بتدمير أنفسهم، وقبول مخططات أعدائهم بسذاجة نادرة تعكس شللاً عقليًّا مريعًا، ويتشرذمون تشرذمًا لا حدود له، بحيث يعجب الناظر للبون الشاسع بين حال هؤلاء القوم؛ حالهم حين يصبغهم الدين، وحالهم حين يفقدون هذه الصبغة!

ولقد أثبت التاريخ أن بعض الأمم قد تلجأ إلى عقلها وفكرها، فتبعث فيها كل إضاءة ممكنة، وتغذيها بكل الوقود الممكن، معتمدة عليها في إطالة عمرها، وتحقيق رخائها، والمكر لنفسها في معركة الحضارات وَفْق قواعد البقاء، وأصول التقدم والنهضة، لكن هؤلاء العرب حين يفقدون وقود الدين، يفقدون كل دم في عروقهم، وكل سيادة في أجسامهم، وكل بصرٍ في أعينهم، وكل بصيرة في قلوبهم، ويتقدمون في بسالة قومية نادرة لانتحارٍ جماعي، يُؤثِر المصلحة الخاصة على العامة، والمنفعةَ العاجلة على الآجلة، واليوم على الغد، وقد يدمر بعضُهم ثروةً تكفي قرونًا في عقود قليلة، ويفيد عدوَّه من ثروته أكثرَ مما يفيد نفسَه، ويخضع لتخطيطات عدوِّه وكأنه صديقُه، بل قد يستشيره في التخطيط لسياسة بني وطنه وقومه، رافضًا استشارة إخوانه وأرحامه وذويه!!

هؤلاء هم العرب حين يعودون إلى أصلهم القَبَلي، المصاحب لهم في كل مرحلة في التاريخ انفصلوا فيها عن صبغة الله، هكذا اكتشفهم ابن خلدون بأكبرِ عمقٍ ممكن لمؤرخ فيلسوف وسياسي فقيه استلهم التراث والحضارة الإسلاميين.

وأما عندما يَقبَلون صبغة الإسلام، فإنهم يصبحون - كما كانوا بحق، وكما يمكن أن يكونوا في مستقبل الأيام بإذن الله - ﴿ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ﴾ [آل عمران: 110].

ها هم العرب كما اكتشفهم ابن خلدون على حقيقتهم دون تأويل أو إسقاط أو تحريف، وسوف يبقون كذلك - شاؤوا أم أبوا - إلى غروب الحضارات ونهاية التاريخ!

ورحم الله العلامة عبدالرحمن بن خلدون، ذلك العربي المسلم العملاق، الذي استطاع أن يفهم العرب أصدق فهمٍ، واستطاع - في الوقت نفسه - أن يترجم الرؤية الإسلامية في نظرياته وأفكاره ترجمة إسلامية صادقة!


[1] مفهوم التاريخ "جزآن" نشر المركز الثقافي العربي، المغرب، 1992م.
[2] الخطاب التاريخي: دراسة لمنهجية ابن خلدون، نشر المركز الثقافي العربي، المغرب، طـ3، 1985م.
[3] دراسات عن مقدمة ابن خلدون، نشر بيروت.
[4] في علمية الفكر الخلدوني، نشر بيروت.
[5] الخلدونية - العلوم الاجتماعية وأساس الفلسفة السياسية، نشر عويدات، بيروت، طـ1، 1983م.
[6] كتبت بالفرنسية، وترجمت للعربية بواسطة محمد عبدالله عنان، نشر دار الكتاب اللبناني، بيروت القاهرة، ضمن الأعمال الكاملة، وقد فند آراءه الساذجة كثيرون، منهم الدكتور: علي عبدالواحد وافي، والدكتور مصطفى الشكعة، وغيرهما.
[7] العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، ص 13، طـ3، 1982م، دار الطليعة، بيروت.
[8] الجابري، المرجع السابق، 13.
[9] مقدمة ابن خلدون، ص 151، طبع دار العلم، بيروت.
[10] محمد عابد الجابري، العصبية والدولة، ص 287.
[11] انظر: المقدمة، ص 157.
[12] د. مصطفى الشكعة، الأسس الإسلامية، ص 144، وما بعدها، طبعة 2، 1408هـ، الدار المصرية اللبنانية.
[13] الجابري، مرجع سابق، 290.
[14] الجابري، ص 288، 289.
[15] المقدمة، ص 160.
[16] الأسس الإسلامية، ص 148.
[17] المقدمة، 157.
[18] المقدمة، ص 149، طـ دار القلم بيروت.
[19] المقدمة، ص 149.
[20] المقدمة، ص 151.
[21] المقدمة، ص 151.
[22] المقدمة، ص 404.
[23] المقدمة، ص 359.
[24] المقدمة، ص 543.
[25] المقدمة، ص 149.
[26] المقدمة، ص 151.
[27] المقدمة، ص 151.
[28] الصفحة نفسها.
[29] المكان السابق.
[30] المكان السابق.
[31] المكان السابق.
[32] عبقريات ابن خلدون، ص 239، طـ عالم الكتب، القاهرة.
[33] محمد العبدة: البداوة والحضارة، نصوص من مقدمة ابن خلدون، ص 33، 42، المنتدى الإسلامي، لندن، طـ1، 1413هـ.
[34] المرجع السابق، ص 35، 36، وقضية التعميم هذه يقول بها أيضًا الدكتور عماد الدين خليل.
[35] د. عماد الدين خليل، ابن خلدون إسلاميًّا، ص 106، 107، المكتب الإسلامي، بيروت.
[36] المكان السابق.
[37] الجامع في تاريخ العلوم عند العرب، ص 493، طـ2، 1988، عويدات، بيروت.
[38] للباحث عبده محمد عواجي، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض كلية العلوم الاجتماعية.
[39] المقدمة، ص 152.
[40] المكان السابق.
[41] رضوان إبراهيم: المختار من كتاب مقدمة ابن خلدون، ص 12، طبع وزارة الثقافة والإرشاد القومي، بمصر، طـ1 / 1960م.
[42] المرجع السابق، ص 20، 21.
[43] انظر مقدمة ابن خلدون، صفحات 146، 151، 404، 543، وغيرها.

No comments:

Post a Comment