Thursday, August 1, 2013

وصرخ شعاع الفجر


خيَّم الصمت الأزلي طويلاً في جوف الليل على تلك الصحراء الموحِشة التي تمتدُّ إلى ما لا نهاية من بعيد، يقطعها شريط السكة الحديدية ليمضي معها نحو المجهول..

فجأة، قطع حبال الصمت صوت خطوات واهنة لفأر جبَليٍّ صغير، بدا وكأنما برَز من العدم، كما لو أن الصحراء لم تَحتمِل حيًّا في جوفها فلفظته خارجها، وفي سرعة أخذ الفأر الجبلي يتنقَّل هنا وهناك باحثًا عن أي شيء يصلح للأكل، وفي هدوء مشوب بالحذر اقترب الفأر من القضبان الحديدية واعتلى إحداها وأخذ يَستكشفه في اهتمام قبل أن تطرح خلايا مخه الرمادية السؤال على نفسها:
ما هذا؟!

إنه شيء جديد لم يمرَّ عليه من قبل، ثم راح يتحسَّسُه في خوف، وبعد فترة كان قد وازن نفسه فوق القضيب الحديدي وأخذ يَجري فوقه في سرور، وطغت فرحة اللهو على إحساسه بالجوع، لكنه توقف فجأة وأخذ يُنصت والتقط سمعُه الحاد دويًّا بعيدًا كآلاف المطارق تهوي فوق القضبان، وارتفع بناظريه فرأى الموت في قطار يطوي القضبان خلفه وسلسل الخوف أقدامَ الفأر لبُرهة رأى الجحيم خلالها منقوشًا فوق قسماته الحديدية، نفض الفأر عن نفسه الخوف وولى ظهره للقطار وأخذ يركض فوق القضيب الحديدي في ذعر وهو ينظر خلفه فيرى الموت يلاحقه، وفي لحظة عبَرت عجلات القطار على أشلاء فأر جبَلي.

حدث كل هذا دون أن يشعر أحد من ركاب القطار بتلك الاهتزازة البسيطة الناتجة عن عبور العجلات الحديدية على أشلاء فأر جبَلي، تلك الاهتزازة التي امتزجَت باهتزازات القِطار المستمرة والتي لا يَشعر بها رُكاب الدرجة الأولى الذين يَنعمون بالنوم الهادئ ونسمات المكيف وأنغام الموسيقا، لم يكن يشعر بها حقًّا سوى ركاب عربات الدرجة الثالثة التي يصل عددها إلى أكثر من نصف عربات القطار الخمسة عشر، وفي إحدى تلك العربات التي تتشابه مع عربات نقل الحيوانات أكثر منها مع عربات نقل البشر داخل تلك العربة التي لا يوجد بها موطئ لقدم؛ حيث تزخر بالرجال والنساء والشيوخ والغلمان متلاحمين ككتل بشرية تتمايل مع كل انحناءة للقطار.

علا صوت من بين الجالسين يُحدِّث رجلاً بجلباب أسود يُشعِل لفافة تبغ من نوع رخيص:
لو سمحت أطفئ السيجارة؛ هناك حامل تجلس معنا.

كان الصوت لرجل يناهز الخمسين يجلس على أحد المقاعد ويده تُربِّت على كتف زوجته وهي سيدة في حوالي الأربعين، يبدو من ذلك البروز الواضح في جسدها أنها في انتظار حادث سعيد، ثم أسند الرجل رأسه فوق المقعد المتهدِّل الأجزاء، وقال محادثًا زوجته بصوت لم يتجاوز أعماقه:
أعلم يا حبيبتي أنك خائفة؛ لهذا أصررتِ على أن تلدي عند أهلك، إنني أشعر بكِ لم أكن أريد أطفالاً، كل ما أردته أن أقضي أيامي الباقية إلى جوارك.

ونظر إليها فوجَدها مُغمِضة العينين، فقال:
يبدو أنها مُتعبة جدًّا، حمدًا لله أنها قد نامت.

لكنها لم تكن نائمة، كانت تُحاول السيطرة على مشاعرها، تُحاول أن تكبِّل ذلك الخوف الذي يَكتنفها، وأخذت تتبَع نصيحة جارتها وتفكر في شيء آخر، فقالت لزوجها بصوت لم يبلغ فاهَا:
أعلم أنك تحبني، وأنا أيضًا أحبك؛ لهذا أريد أن أسعدك، لقد كنت أرى نظرات الشوق الحبيسة في عينيك كلما شاهدت طِفلاً صغيرًا، أتحسبني لم أكن أشعُر بك كل ليلة وأنت تتسلل من الفراش بعد أن أنام وتخرج إلى الردهة لتُفرغ كبت وانفعالات اليوم بأكمله، لقد كنت أراك من خلف الباب وأنت تتطلع إلى صور الأطفال في المجلات وعيناك تزرفان الدمع، إنني أفعل هذا من أجلك، صدِّقني فقط من أجلك أنت.

ثم أحسَّت بدخان تبغ يمتزج بأنفاسها فسعلت، ثم سمعت صوت زوجها يتشاجر مع الرجل ذي الجلباب الأسود لتعلو أصواتهما للحظات على ضجيج القطار ثم تتحوَّل إلى همهمات ساخطة، تنتهي بإلقاء الرجل ذي الجلباب الأسود للسيجارة من النافذة قبل أن يُغمِض عينيه محاولاً الاستسلام للنوم؛ للتغلُّب على التوتر الواضح على ملامحه، لكنه وللمرة الثالثة يفتح عينيه في ضيق ويمدُّ يده خلال جلبابه الأسود فيخرج ورقه مطوية فيفضها ويقرأ محتوياتها غير مُصدِّق ما بها:
"احضر حالاً، والدك قد توفي، سنقيم الجنازة فور حضورك، احضر بأقصى سرعة... أخوك"

ومن عينيه تساقطت قطرات دمع قليلة لتجري على وجنتَيه قبل أن تستقر فوق شاربه الكث، وفي رأسه تزاحمت الأفكارُ، فرأى بعين الخيال أخاه يسير أمام الجنازة دون أن تذرف عيناه دمعة واحدة، سيسير بوجهه الحاد وعينيه الصارمتين وشاربه المدبَّب، سيسير كما سار طوال عمره ورأى نفسه خلف الجنازة يمزقه الحزن على أبيه، سيَسير مترنِّحًا متهالك القدمين، الآن من له بعد أبيه؟ مَن سيحميه من بطش أخيه؟ إنه يعلم أنه لن يتجرأ على مواجهتِه وسيَضيع حقه، أخرَجه من شروده صوت الكُمسري قائلاً:
تذاكر.

أدخلَ الورقة في طيات الجلباب، وأخرج التذكرة وناوَلَها للكمسري الذي قطعها نصفين وأعادها له ثانيه قبل أن يتحرَّك إلى المقعد الذي أمامه ويردِّد كلمته الوحيدة:
تذاكر.
قلَّبت الفتاة الجالسة على المقعد في حقيبتها بتوتُّر ثم أخرجت منها "كارنيه" اشتراك السكة الحديدية، تناول الكمسري الكارنيه منها ثم نظر إليها وبدا وكأنما سيقول شيئًا غير أنه صمت، ونظر في وجهِها قليلاً ثم ابتسم وأعاد الكارنيه لها وهو يتحرَّك من أمامها إلى باقي الركاب مُردِّدًا كلمته التقليدية، وما أن تحرَّك حتى زفرت في ارتياح وقالت مُحدِّثة نفسها وهي تعيد الكارنيه إلى حقيبتها:
الحمد لله، لم يلاحظ أن الاشتراك قد انتهى، لا أدري ماذا كنت سأفعل لو طالبني بثمن التذكرة فلم يتبقَّ معي مال.

ثم احتضنت حقيبتها في سعادة وأكملت:
إن أختي الصغيرة سوف تطير فرحًا عندما ترى الفستان الجديد الذي اشتريتُه من أجلها لترتديه في العيد.

وعلا وجهَها طيفُ كآبة وهي تقول:
لا زلتُ أذكر كيف ظلت تبكي طوال أيام العيد الماضي؛ لأن أبي لم يستطع أن يشتري لها فستانًا جديدًا، مسكين يا أبي إلى متي ستتحمَّل؟ تكفيك نفقات إخوتي الخمسة في الدراسة.

ثم كسا وجهَها شبح ابتسامة وهي تقول:
الحمد لله أنني استطعت أن أجد عملاً في ذلك المصنع المقابل لمسكني، صحيح أنه عمل شاق إلا أنه سيُساعدني على تحمُّل نفقاتي دون أن أثقل على أبي.

وانتزعَها من تأملاتها بكاءُ طفلٍ صغير يستقرُّ على ذراع أمه الواقفة بجوار مقعدها، أرادت أن تقف لتجلسها مكانها إلا أنها وقبل أن تتحرَّك كان الشاب الجالس على المقعَد المواجه لها واقفًا ليُجلِس المرأةَ على مقعدِه، ولأول مرة تنتبه إلى هذا الشاب منذ أن ركبت القطار رغم أنه يجلس في مواجهتها.

وتأملت وجهه الحزين وعينيه الشاردتين وأنفه المدبَّب ولحيته الكثَّة وشَعره الأشعث، كان كأنما خرج لتوه من سجن طويل.

أما هو، فقد كان في تلك اللحظة يُبحِر بذكرياته في بحار الماضي حين كان شابًّا فتيًّا لا يحمل للدنيا همًّا، حتى أقنعه أحد أصدقائه بالسفر إلى الخارج، فأخذ يبحث عن عقد عمل ومضَت فترة عصيبة من حياته رهَن خلالها والدُه المنزل ليحصل على عقد العمل من إحدى شركات العمالة بالخارج، وباعت والدته كل ما تملكه من مصوغات لتدبِّر له ثمن تذكرة السفر، وسافر بالفعل إلى إحدى الدول الأوربية وبدأت مأساة عمره، في البداية اكتشفَ أن العقد مزيَّف وقضى بعدها عدة أيام في الفندق بدون عمل حتى وجد مهنة عامل نظافة في أحد المطاعم فعمل بها، وهناك تعرف على أحد المصريين وانتقل للسكن معه في حجرته بالفندق، وبعد أيام سرق جواز سفره وكل ما معه من مال وهرَب، وأظلمت الدنيا في وجهه؛ فلقد رفض صاحب المطعم استمراره في العمل؛ لأنه لا يحمل جواز سفر، وطرده أمن الفندق بعد أن جرَّدوه من ثيابه مقابل حساب الغرفة، فخرج إلى الشارع وراح يتسوَّل، وأغلقت الدنيا بابها في وجهه حين ألقت الشرطة القبض عليه وتم ترحيله إلى مصر، وها هو ذا عائد إلى قريته بأعين ذليلة وكرامة مهدرة، ماذا جنى من الغربة؟ سنوات ضاعت من عمره دون فائدة، ومشكلات لا حصر لها أوقع نفسه فيها، والتقطت أنفه رائحة غاز يتطاير في الهواء ويَختلط بالأنفاس، وأيقظه صراخ في نهاية العربة لرجل يبدو من هيئته أنه موظف بسيط في العقد الخامس من عمره يهتف في فزع:
نقودي، لقد سُرقت، النجدة.

والتفت إليه معظم ركاب العرَبة وأخذوا يتأمَّلونه في إشفاق بوجهه الشاحب المستطيل، وبروز عظام الوجنتين، وفكه العريض وهو يدور حول نفسه في حيرة، والركاب من حوله يحاولون تهدئته حتى جلس في حزن والتقط ورقة كان قد خطَّ بها بعض كلمات وأخذ يستعيد ما بها:
عيدية الأولاد 50 جنيهًا، حساب البقال 150 جنيهًا، إيجار الشقة 300 جنيه، دواء القلب 130 جنيهًا.

وابتسم في مرارة؛ لقد كان حزينًا لأن المرتب لن يكفيه بقية الشهر، ماذا سيفعل الآن وقد ضاع المرتَّب بأكمله؟ كيف سيقضي العيد هو وزوجته وأولاده؟ وما سيقول للبقال وصاحب المنزل؟ ووالدته الضريرة من أين سيأتي لها بدواء القلب الذي تحتاجه يوميًّا؟

وتلألأت حبات الدمع الحبيسة في عينيه وأحسَّ بحرارة الذلِّ والحاجة، وشعر بقدَم الفقر تطأ عنقه كما ظلت تفعل معه طوال عمره حتى أحنت ظهره وأثقلت قدمه، لم يكن يشعر بشيء مما حوله، كان حزنه ينقله إلى عالم آخر، عالم كئيب سيطر على تفكيره؛ لهذا فقد انتفَض حين أحسَّ بيدٍ توضَع على كتفِه فنظر إلى صاحبها فطالعه وجه شابٍّ يافع جلس إلى جواره ومد إليه يده ببعض النقود وهو يقول:
لقد جمعتها لك من ركاب القطار.

ثم أخرج من جيبه مبلغًا من المال وقال:
وهذه مني أنا.

ورغمًا عنه تسللت دمعه ساخنة من بين حصار عينيه لتجري على وجنتيه، وأتبعَها سيل الدمع الملتهِب ليتدفَّق فوق المجرى الأزلي له، وبعين يملؤها الدمع رأى الشاب يبتعد ليعود إلى مجلسه، ثم تأمل من بعيد وجهه الأسمر المستدير وملامحه الهادئة وعينيه اللامعتين وثغره الباسم، ثم نظر إلى النقود بين يديه، واستعاد عقله السؤال الذي سأله للشاب قبل رحيله: من أنت؟

وكيف ابتسم له في صمت قبل أن يعود إلى مكانه، لم يكن يعلم أن تلك النقود التي أعطاها له الشاب هي كل ما يملكه في جيبه؛ فقد كان عائدًا من وحدته في الجيش بعد أن أنهى فترة تجنيده، عاد والشوق يملؤه لمقابلة أهله وأصدقائه و...... وخطيبته.

لقد اتَّفق مع والدها على أن يكون موعد الزفاف بعد غدٍ ثاني أيام العيد، وتخيل نفسه بجوار حبيبته وهي في ثوب عرسها الأبيض كأميرة تخرج من أسطورة عشق قديمة تُشرق في ثوب من نور وضاء، والتقطت أذناه قرع الطبول وأصوات الدفوف وغناء النساء العذب الجميل، والصبية يلعبون في ضوء الأفرع المتلألئة، وعلا الضجيج في أذنيه.. طبول ودفوف وغناء........ ثم..

صراخ وعويل وبكاء.

وانتفض جسده كمَن يستفيق من حلمٍ جميل على كابوسٍ بَشِع، فوجد ألسنة النيران تلتهم المكان فتمتد من المقاعد والجدران إلى الأجساد المتكدِّسة داخل الصندوق المغلق، تنتقل في سرعة من عربة إلى أخرى.

رأى النار تَقترب منه، حاول أن ينهض من مقعده فمنعه الزحام والاضطراب فنظر في يأس إلى باب العربة المغلق والعشرات يتدافعون نحوه في ذعر، ففكَّر في القفز من النافذة، فارتطم ناظراه بالأعمدة الحديدية التي تقطع عليه الطريق.

شاهَدَ بعينين دامعتين أمله يضيع وحلمه يتحطم، شاهد امرأة حاملاً قد أمسكت بها النيران وزوجها يصارع لإنقاذها غير مبالٍ بألسنة النار التي أحرقت ملابسه، شاهَد الرجل ذا الجلباب الأسود ينتزع بيدَيه الأعمدة المتآكلة للنافذة ويَقفز منها لتسحقَه عجلات القطار الحديدية، ورأى الكمسري يسقط صريعًا تاركًا من خلفه دفتر التذاكر قد امتدَّت إليه النيران الواحدة تلو الأخرى، شاهد فتاة جميلة تركض نحو الباب المغلق تاركة من خلفها حقيبتها الصغيرة تلتهمها النار في سرعة فتصطدم برجل أشعث الشعر اشتعلت النار في ملابسه فتسقط على وجهها لتطأها الأقدام المذعورة، شاهد الموظَّف متفحم الجسد ويداه ما زالت تقبض على بقايا النقود المحترقة.

كان هذا آخر ما رأته عيناه قبل أن تمتدَّ النيران إلى مقعده فتقضي عليه مخلفة وراءها فوق بقايا المقعد كومة من الرماد كانت منذ برهة إنسانًا يحلم ويتمنى.

وهناك في عربة القيادة كان السائق يراقب الطريق في ملل وهو يدخن لفافة تبغ مصري الصنع وقد عاد باكرتَه إلى موعِد تسلم الوردية حين وجد عربات القطار خمس عشرة وليس اثنتي عشرة كما هو مُفترض، وعندما ذهَب إلى تلك العربات الثلاث، علم أنها قد خرجَت من قسم الصيانة دون أن تكمل صيانتها.

فذهب إلى رئيسه المباشر الذي أخبره أن عدد الركاب كثيرون جدًّا؛ لهذا فقد تم إخراج ثلاث عربات من الصيانة لتَحمِل باقي الركاب؛ حتى لا تنهال الشكاوى على المصلحة، وعندما واجهه بأن هذا فيه خطورة صرخ في وجهه:
لا شأن لك بهذا، اذهب إلى القِطار، وإلا سأحولك للتحقيق.

نفَض السائق عن نفسه توتُّره وألقى بالسيجارة المنتهية من النافذة، وعاد يتطلع إلى الطريق في صمت، وتلون الأفق بألوان الشروق الأولى، وسطع شعاع الفجر على قطار يمضي وسط الصحراء ومن خلفه يَجذب عربات اشتعلَت فيها النيران وبداخل تلك العربات تجمَّع عذاب ركابها في صرخة واحدة، انطلقت مع بزوغ طلائع الفجر الأولى لتُبدِّد سكون الليل.

No comments:

Post a Comment